Skip to main content
x

المفوض السامي يكشف كيف يمكن بناء السلام وتعزيزه

العودة

06 شباط/فبراير 2024
أدلى/ت به: مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك

الشعوب الأصلية والحركات المُطالبة بالعدالة الاجتماعية أتت من جميع أنحاء كولومبيا كي تتظاهر من أجل العدالة والسلام © خوانشو توريس/ وكالة الأناضول

أُعرب عن امتناني العميق للدعوة التي وُجِّهَت لي كي أتحدّث أمام هذا العدد الكبير من الأشخاص الذين كرسوا حياتهم المهنية للنهوض بحقوق الإنسان بمختلف جوانبها. وأتطلّع إلى أن أناقش معكم موضوعًا لا يمكن المبالغة في التأكيد عليه، وهو كيف يمكننا أن نساهم معًا اليوم في مواجهة النزاعات العنيفة والاستقطاب المتطرّف.

قد يَلقى هذا الشهر عشراتُ الآلاف من الأشخاص حتفهم في سياق الحروب التي تدور في الشرق الأوسط وفي منطقة الساحل وشرق ووسط أفريقيا وأوكرانيا وميانمار ومناطق أخرى من العالم. كما سيصاب العديد من الناس بجروح، ولربما بشكل دائم، وسيضطر المزيد من الناس إلى الفرار من ديارهم.

ويمزّق القتال الكثير من المجتمعات والاقتصادات والأمم. وتتضاعف الاحتياجات الإنسانية بشكل غير مقبول، في حين أن التمويل المخصص للاستجابة لها لا يواكبها إطلاقًا. فمنذ إنشاء صندوق الأمم المتحدة المركزي للاستجابة للطوارئ في العام 2006، ازدادت احتياجات التمويل عشرة أضعاف، من 5.2 مليار دولار في العام 2006 لمساعدة 32 مليون شخص، إلى 57 مليار دولار تقريبًا في العام 2023، لمساعدة 245 مليون محتاج.

وتتصاعد التوترات أيضًا حتى خارج مناطق الحرب.

فللحرب في غزة أثر مزلزل في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وخطر امتدادها حقيقيّ.

ومن غرب البلقان إلى القرن الأفريقي، يبقى التهديد باندلاع صراع قد يتحوّل إلى عنف متأجّج، حقيقيًا للغاية أيضًا.

وقد تجتاح هذه الموجات العارمة من العنف والمعاناة ملايين الأشخاص. كما أنها تقوّض قدرة العالم الأوسع نطاقًا على التعاون من أجل مواجهة التحديات الوجودية الأخرى، ومنها الكارثة المناخية التي تواجهنا.

نحن بحاجة إلى التزام متجدّد بالعمل معًا، كي ننتشل العالم من الخطر.

وكي نصوغ مسارات جديدة نحو الحلول المطلوبة. ومن أجل أن نبلغ هذه الغاية بخطوات ثابتة، نحتاج إلى النظر في ما نجح في الماضي واستخلاص العِبَر منه.

ينعقد هذا المؤتمر في بلفاست، التي كانت قبل ثلاثين عامًا تغصّ بحواجز فولاذية تردّدت أصداؤها مع الهجمات اليومية بالقنابل الحارقة وإطلاق النار. أما اليوم فتتلألأ المباني الزجاجية على الطرقات المزدهرة، وفوائد اتفاق الجمعة الحزينة في أيرلندا الشمالية، الذي وُقّع قبل 26 عامًا تقريبًا واضحة في كل مجالات الحياة.

وُصف اتفاق الجمعة الحزينة في ذلك الوقت بأنه معجزة سياسية، لكنه يشكّل أيضًا معجزة للمجتمع مدني، حيث جمع بين ممثلي المجتمعات التي رفضت في البداية حتى التواجد في نفس القاعة. كما ضمّ بشكل بارز النساء اللواتي غالبًا ما يتم إستبعادهن عن طاولة المفاوضات، ونصّ على أهداف مشتركة بعيدًا عن الكراهية التي بدت مستعصية على الحل. ومن اللافت أيضًا أن مبادئ حقوق الإنسان مترسّخة في هيكله، بما في ذلك اشتراط إدماج الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان مباشرة في قانون أيرلندا الشمالية.

كما ركّز الاتفاق على تقاسم السلطة، ونزع السلاح من الجهات شبه العسكرية، وإصلاح نظام الشرطة، وإنهاء التمييز، بما في ذلك في مجال التوظيف، مع سن تشريعات صارمة أثّرت بشكل ملموس على رفاه الكاثوليك، وبذل بعض الجهود للاعتراف بإرث الماضي. كما حدّد بوضوح الحماية الإجرائية للنهوض بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

ليس اتفاق الجمعة الحزينة قصّة خيالية ساحرة إذ لا تزال المجتمعات المحلية منفصلة إلى حد كبير في التعليم والسكن الاجتماعي، ولا تزال بعض الأحياء مقسّمة بما يعرف بـ"جدران السلام". ولا بدّ من بذل المزيد من الجهود من أجل ضمان اتباع نهج شامل يركز على حقوق الإنسان في العدالة الانتقالية في المملكة المتحدة. إلاّ أنّ أيرلندا الشمالية تقدم لنا العديد من الدروس المهمة التي سأعود إليها بعد قليل.

اسمحوا لي أن أنتقل سريعًا إلى مكان أبعد بقليل، إلى نيبال، حيث حدّد اتفاق السلام قبل 18 عامًا دروسًا بشأن كيفية إنهاء الحرب الأهلية المريرة التي طال أمدها. وفي هذا الصدد أيضًا، أدّى المجتمع المدني دورًا حاسمًا، بما في ذلك النساء والشعوب الأصلية والمجتمعات الطبقية والعرقية، فضلاً عن قادة النقابات العمالية.

وقد ساهمت مفوضيتنا في ضمان ترسيخ حقوق الإنسان في صميم العملية الانتقالية نحو الحكم الديمقراطي والدستوري والفيدرالي. كما دعمنا ضحايا النزاع، وساعدناهم على المطالبة بحقوقهم. وقد أبرزت عمليات الرصد التي قمنا بها أثر التمييز، والطرق التي كان الإفلات من العقاب يغذي بها انعدام الثقة في جميع الهياكل الحكومية، والمجالات حيث أدّى تصاعد المظالم، بما في ذلك المظالم الاقتصادية، إلى تفاقم خطر اندلاع النزاع من جديد. وقد ساهم ذلك في مناصرة الإصلاحات التصحيحية التي اقترحتها الأمم المتّحدة ومجتمع المانحين، فضلاً عن إثراء عملنا في مجال التصدي للإفلات من العقاب، ودعمنا للجنة الوطنية المعنية بحقوق الإنسان وإنشاء آليات العدالة الانتقالية.

وفي هذا الموضع أيضًا، ليست القصة خيالية مثالية، وهي لم تنتهِ بعد، فالتحديات لا تزال قائمة في نيبال، لا سيما في مجالات التمييز الطبقي وحقوق الأقليات والحاجة الملحّة إلى إحياء خطّة العدالة الانتقالية التي تراوح مكانها. ولا يزال العمل جاريًا، ونحن مستمرون في التواصل مع الأحزاب السياسية وقادة الحكومة في ما يتعلق بقانون العدالة الانتقالية المرتقب.

اسمحوا لي أن أعطيكم مثالاً آخر في هذا الصدد: كولومبيا، حيث ساعد اتفاق السلام الحازم لعام 2016 على إنهاء نزاع مسلح دام أجيالاً طويلة. وقد ساهمت مفوضيتنا بشكل بارز في إشراك الضحايا، بما في ذلك النساء، بحيث ترسّخ الاتفاق في حقوق الإنسان، واعترف بضرورة معالجة التمييز والعنف اللذين عانت منهما الشعوب الأصلية والمنحدرون من أصل أفريقي على وجه التحديد.

وقد أوكل اتفاقُ السلام في كولومبيا مفوضيتَنا بمهمة رصد تنفيذ جميع جوانبه المتعلقة بحقوق الإنسان. وتكتسي هذه الخطوة أهمية حيوية لأنّ الإنذارات المبكرة للمظالم تشكّل أداة حاسمة في المضي قدمًا بالإصلاحات التي تصون السلام. كما أدينا دورًا فعالًا في إنشاء ودعم هيئات العدالة الانتقالية التي تساهم في المساءلة عن الجرائم المرتكبة خلال النزاع المسلح، بما في ذلك العنف الجنسي. ونسعى إلى النهوض بإصلاح قطاع الأمن، واعتماد سياسات جديدة بشأن المخدرات وتفكيك الهياكل الإجرامية التي ورثتها البلاد عن الجماعات شبه العسكرية، وشاركنا أيضًا في عملية إصلاح عمليات ضبط الأمن، وفي معالجة أوجه عدم الإنصاف التاريخي في الحصول على الأراضي.

وفي سياق مناقشة اليوم التي تتناول كيف يمكن للجهات المانحة أن تنهض ببناء السلام، أشير إلى أنه على مدى 7 سنوات، وحتى صدور قرار مجلس حقوق الإنسان في تموز/ يوليو الماضي، لم يتلق هذا الكم الهائل من العمل في مجال السلام الذي تضطلع به مفوضيتنا في كولومبيا أي تمويل إضافي من الميزانية العادية للأمم المتحدة، كما أن أزمة السيولة الحالية التي تعاني منها الأمم المتحدة تعيق قدرتنا على تعيين موظفين لتنفيذ ذلك القرار. لذلك، فإن الدعم والتمويل من خارج الميزانية، عبر تبرعات الجهات المانحة شكّل شريان حياة حاسم لهذا العمل، وكذلك لجميع عملياتنا، وأنا ممتن للغاية لدعمهم.

أودّ أن أقولها بكلّ وضوح: أيرلندا الشمالية ونيبال وكولومبيا هي ثلاثة أمثلة ناجحة على نطاق واسع لبناء السلام، إلّا أنّ العديد من المحاولات الأخرى لم تبلغ خواتيمها تمامًا، كما أنّ بعضها باء بالفشل الذريع. وتجري هذه المناقشة على خلفية الحرب المروعة في غزة، التي تشكّل موجة جديدة من العنف اندلعت على الرغم من المحاولات المتكررة لبناء السلام في الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل.الإصلاحات، في أعقاب الثورة في عام 2019. وفي السودان أيضًا، تندلع حرب كارثية أخرى على الرغم من المحاولات المتضافرة لبناء السلام وضمان الإصلاحات، في أعقاب ثورة العام 2019.

ويتطلب صنع السلام والحفاظ عليه تفانيًا في العمل على مستويات عديدة، بما في ذلك توسيع الحيز المدني وضمان عمليات عدالة انتقالية قوية وفعالة. واليوم، في إثيوبيا، تمامًا كما هي الحال في العديد من المناطق الأخرى، بما في ذلك غرب البلقان، لا بدّ من بذل جهود حثيثة لتوطيد السلام ومنع اندلاع دوامات جديدة من العنف. ويحتاج العمل على مكافحة التمييز وخطاب الكراهية، والنهوض بالعدالة الانتقالية، ودعم الطيف الكامل لحقوق الإنسان إلى دعم مالي ثابت. كما يجب أن يسترشد بالدروس المستفادة من الجهود الناجحة المبذولة لمنع العنف وبناء السلام.

ما هي هذه الدروس؟

أوّلًا: لا تقتصر الجهود الرامية إلى صنع السلام على تلك التي يبذلها قادة الأحزاب والعسكريين. فالشعب هو الأكثر تضررًا من الحرب، والشعب هو صاحب المصلحة الأكبر في إنهاء الحرب، والشعب، أي النساء والرجال العاديين الذين نعرّفهم ’بالمجتمع المدني‘، هم الذين يجب أنّ نمدّهم بصوت حاسم في المفاوضات التي تحقق السلام.

ثانيًا، يجب أن تبقى حقوق الإنسان محور جميع الجهود الرامية إلى بناء السلام. فهي أقوى استثمار وقائي ممكن. وضمن هذا النطاق من الحقوق، من الضروري التأكيد على حقوق المرأة. فأبحاث معهد جورج تاون للمرأة والسلم والأمن تشير إلى أنه في العام 2022، عاشت 600 مليون امرأة تقريبًا، أي ما يعادل 15 في المائة من النساء في العالم، على بعد 50 كيلومترًا من أي نزاع مسلح، أي أكثر من ضعف المعدّل المُسَجّل في تسعينات القرن الماضي. لقد أثبتت تجربة الأمم المتحدة على مدى عقود من الزمن بكلّ وضوح أنه عندما تكون المرأة قادرة على أداء دور حاسم في صنع السلام وبنائه، فمن المحتمل أن يستمرّ هذا السلام ويدوم. واطلعتم جميعكم على قرار مجلس الأمن 1325، الذي يدعو إلى مشاركة المرأة الكاملة في عمليات السلام. لكن في العام 2022، وعلى الرغم من انخراط بعض النساء في 4 من أصل 5 عمليات سلام شاركت فيها الأمم المتحدة، ظلّ عددهن الفعلية منخفضًا، حيث لم يتجاوز 16 في المائة من المشاركين، وهذه النسب آخذة في التناقص. من الضروري للغاية أن نعكس هذا الاتجاه. فنحن ندرك تمامًا أنّ استبعاد النساء من عمليات السلام يشوه جذريًا السرد الكامل للنزاع، وأهمية أي نتيجة يتم التفاوض عليها وعدلها. كما إنه يقوض استدامة السلام، والمثال الواضح على ذلك بالنسبة إلي هو جنوب السودان.

ثالثًا، تبقي المساءلة من العناصر الحاسمة الأخرى. وأعتبر أنّها من بين الدروس التي يجب أن نستخلصها من فشل الجهود المبذولة للحفاظ على السلام في كل من السودان وميانمار، على سبيل المثال لا الحصر. ويجب أن يدرك مرتكبو الانتهاكات أن العدالة ستأخذ مجراها لا محالة، ويجب أن تكون هذه العدالة حاسمة بما يكفي لتردع الانتهاكات المستقبلية. يجب أن يعرف الضحايا أن المعاناة التي لحقت بهم معترف بها، وأنّ العدالة ستتحقّق حتمًا، وأن العنف لن يتكرر أبدًا. وفي هذا الصدد، من الممكن أن تعود المساءلة برؤيتها الواسعة النطاق بالكثير من الفوائد، فتتجاوز الملاحقات الجنائية وتستجيب لشواغل الضحايا، بما في ذلك ما يتعلق بالوقاية والتعويض وضمانات عدم التكرار.

رابعًا، يجب أن يحيط الوضوح والصدق بأسباب النزاع الجذرية، بما في ذلك من منظور العمر والجنس والتنوع العرقي والإثني والثقافي. فغالبًا ما تنشأ النزاعات في سياق من القهر وديناميكيات السلطة السامة والنظام الذكوري والتمييز. ومن الضروري للغاية أن نعالج دومًا التمييز وأوجه عدم المساواة التي يولدها، بما في ذلك عدم المساواة في الوصول إلى العدالة والخدمات والفرص الأساسية. وهذا واضح مثلًا في الأزمات المندلعة بشكل متكرّر في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. ومن بين الدوافع القوية الأخرى للنزاعات الفساد، وسوء الإدارة والحوكمة والمخالفات الحكومية بشتّى أشكالها.

خامسًا، إن بناء واستدامة الإصلاحات التي تشكل العمود الفقري للسلام الدائم هو جهد طويل الأمد يتطلب رصدًا يقظًا وتأييدًا ودعمًا مستمرَيْن، بما في ذلك الدعم المالي. وكما اختبرت مفوضيتنا في كولومبيا، فإن ذلك يعني اكتشاف ومعالجة ما قد يبدو للوهلة الأولى أنه مظالم بعيدة ومحدودة. إن إشراك المجتمع المدني بالغ الأهمية، كي يصبح جزءًا من عمل الرصد هذا، والعمل على إيجاد الحلول، سواء كان التركيز على الإصلاحات الريفية، أو جهود التنمية الأكثر شمولاً، أو معالجة التمييز.

ما يحملني إلى تناول الموضوع الثاني من مناقشتكم اليوم، وهو الاستقطاب. في أغلب الأحيان، يسبق اندلاع العنف مظالم عميقة الجذور وخوف وغضب وغليان بطيء ومتصاعد من الكراهية، وازدراء لفظي وتجريد من الإنسانية، ثم تتحوّل إلى اعتداءات جسدية متفشية على نطاق واسع وشبه طبيعية، إلى حين بلوغ الذروة. كتب الكاتب الليبي هشام مطر مؤخرًا أن "نقيض الحرب هو التعاون"، وأعتقد أن هذه نقطة مهمة للغاية. فلبناء السلام والحفاظ عليه، علينا أن نعمل على بناء أو إعادة بناء الروابط الاجتماعية والتعاطف والشعور بالتفاهم المشترك وبالترابط المشترك وبمصيرنا المشترك.

كيف نقوم بذلك؟ إنّ انخراط المجتمع المحلي حاسم في هذا الصدد. كما يجب التغلّب على الحواجز وطرحها جانبًا. ومن الممكن أن يَجري التثقيف، التثقيف في مجال حقوق الإنسان، الذي يؤكد على حقوقنا العالمية والمتساوية تمامًا، علنًا في المدارس والحملات الإعلامية العامة، لكن من الممكن أن يأتي أيضًا أكثر خفية، فيتم نشره من خلال الفرق الرياضية الشاملة، والتدريب على المهارات المحلية، وبرامج المجتمع المدني المتمحورة حول المرأة، والقيادات الدينية والمجتمعية، وربما عبر التركيز على المشاركة الشاملة للشباب بشكل خاص. في أيرلندا الشمالية، يبدو من الواضح أن الشباب المتعلم والمتفوق، الذي استفاد بشكل كبير من 26 عامًا من السلام ونشأ في ظلّ جهود ترمي إلى التقريب بين المجتمعات المحلية وربطها مع بعضها البعض، شكل دائرة انتخابية قوية تمنع نشوب نزاع جديد. والأهم من ذلك، تبرز الحاجة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد خطاب الكراهية وجرائم الكراهية، فضلاً عن التضليل الإعلامي الضار والاتجاه المتزايد لإنكار الإبادة الجماعية.

ما الذي يمكن أن تقوم به الجهات المانحة لدعم بناء السلام المستدام وتحويل المجتمعات من الاستقطاب إلى التعاون؟ يمكنكم فعل الكثير، وقد سبق وفعلتم الكثير. فمجتمع المانحين هو قوة لتحقيق تقدم هائل في توسيع الحيّز المدني وتعزيزه، بحيث يصبح بإمكان الجهات الفاعلة غير التقليدية والمتنوعة أن تجلب معارفها وقاعدتها المحلية إلى دائرة الأشخاص الذين يدعمون السلام. وغالبًا ما يحدث ذلك على مستوى القاعدة الشعبية، وداخل المجتمعات المحلية وفي ما بينها، وهو مجال يمكن للجهات المانحة أن تساهم فيه من خلال دعم مجموعات المجتمع المدني على تحقيق أثر إيجابي.

فعلى سبيل المثال، غالبًا ما أدّت المجموعات النسائية دورًا بارزًا في بناء الجسور والتواصل عبر الانقسامات. فعندما كنت أعمل في مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، شهدتُ ذلك مرات لا تحصى بين المجموعات النسائية في المجتمعات النازحة، وغالبًا ما أتى الأثر الإيجابي الذي حققته هذه المجموعات مثيرًا للإعجاب. وفي بلدان الساحل على وجه التحديد، حيث يشكل الشباب نسبة كبيرة من السكان، يتطلب الحفاظ على السلام مشاركة الشباب. كما أن توفير فرص العمل في مشاريع التنمية المستدامة التي تكافح التدهور البيئي والإقصاء يحقق عوائد جمّة على مستوى السلام.

وبإمكان الجهات المانحة أيضًا تمويل البرامج المبتكرة، ومنها المشاريع الصغيرة التي تختبر نهجًا جديدة، مثل تطوير أدوات استشرافية جديدة قائمة على البيانات تشير إلى مناطق النزاع المحتملة. وهذا جانب تنخرط فيه مفوضيتنا في الوقت الراهن، وكذلك منظومة الأمم المتحدة الأوسع نطاقًا. وفي سياق متصل، من الضروري للغاية لأي عملية بناء سلام أن تنفّذ عمليات رصد وإبلاغ عن الأوضاع على الأرض بكلّ يقظة على أن تحظى بما يكفي من الموارد، بغية تسليط الضوء على الحالات الناشئة التي تتطلب استجابات سريعة.

ومن الناحية المثالية، يجب أن تبقى هذه الموارد مرنة لتمكين رد فعل سريع عند اكتشاف إشارة محتملة لحدوث أزمة. لكن يجب أيضًا أن تكون قابلة للتوقع ومستدامة على المدى الطويل. ويجب أن يُنظر إلى الاستثمار في الوقاية على أنه مسعى دائم، واستثمار طويل الأجل يبقى دومًا أقلّ تكلفة من التعامل مع اندلاع أزمة أو نزاع.

وعلى الرغم من كل التشاؤم والكآبة، يبقى الأمل حيًا. ففي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أدارت مفوضيتنا اجتماعًا عالميًا بشأن حقوق الإنسان احتفالًا بالذكرى السنوية الـ75 لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد وردنا 800 تعهد تقريبًا من الدول ومنظّمات المجتمع المدني والمنظمات الإقليمية وقطاع الأعمال التجارية وغيرها من الجهات الأخرى، وأعتبرُ أنّ ذلك خير دليل على حاجة العالم الملحة إلى العمل في مجال حقوق الإنسان. ما يُظهر الإقبال الكبير على التأكد من تطبيق إطار القوانين والمبادئ التي وضعناها.

نتمتّع بقوة هائلة لتصحيح أخطاء عالمنا.

أشكركم من أعماق قلبي على العمل الذي تقومون به للنهوض بحقوق الإنسان والدعم الذي تقدمونه لمفوضيتنا.

العودة