البيانات والخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان
تورك من جامعة أوتاوا: أحثّ الحكومات على مواءمة السياسات والإجراءات المُعتَمَدة مع مبادئ حقوق الإنسان
16 تشرين الأول/أكتوبر 2023
أدلى/ت به
مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك
في
جامعة أوتاوا
العميد الدكتور جيل سكوت،
حضرة البروفيسور باكر،
أصدقائي الأعزّاء،
يسعدني أن أتحدث اليوم في هذه الجامعة البارزة. وأودّ أن أغتنم هذه الفرصة كي أحيي أمة أنيشينابي ألغونكين، التي تعيش في هذا الإقليم منذ العصور الغابرة، وكذلك جميع الأمم الأولى، وشعبي الإنويت والمتيس. كلمتي اليوم مستوحاة من شجاعة هذه الشعوب وقدرتها على المواجهة والصمود، اللتين لا تزالان تستمدانهما من حكمة الأجداد.
تواجه البشرية اليوم تحديات هائلة تصطدم ببعضها البعض، ما قد يولّد نتائج كارثية على مستوى العالم.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك ما يحدث في الشرق الأوسط، حيث أدى العنف المروع للاعتداءات على المدنيين الإسرائيليين انطلاقًا من غزة قبل تسعة أيام، وأخذ أكثر من 150 رهينة، من بينهم أطفال، إلى تحوّل الوضع إلى قنبلة موقوتة. وقد شَمَل الرد الإسرائيلي حتى هذه اللحظة قصف أهداف في المناطق الحضرية المكتظة بالسكان في غزة وقطع إمدادات الكهرباء والمياه والغذاء والوقود، ما أثّر بشكّل مدمّر على المدنيين. ويبدو أن المزيد من التصعيد ممكن، ومن المحتمل أيضًا أن يتوسّع النزاع فيشمل البلدان المجاورة، ما يولّد آثارًا كارثية لا محالة.
قبل أن أناقش أيًا من القضايا الأخرى التي تواجه العالم، أرغب في أن أولي هذه الأوضاع المزيد من الاهتمام، لأنّني أعتبرها، وأنتم أيضًا على ما أظن، مقلقة للغاية.
نظرًا إلى عمليات القتل الجماعي وأخذ الرهائن وغيرها من جرائم الحرب المحتملة الأخرى التي ارتكبتها حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بحقّ المدنيين، من الواضح أن يكون لإسرائيل شواغل أمنية مشروعة. وفي مقابل ذلك، من الواضح أيضًا أن الردّ على هذه الاعتداءات يجب أن يمتثل امتثالًا صارمًا للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
يجب ألا يدفع ملايين المدنيين الفلسطينيين ثمن الجرائم الوحشية التي ترتكبها حماس والجماعات المسلحة الأخرى. ومن الواضح أيضًا أنّه على جميع الأطراف في النزاع أن تحترم القانون الدولي، بما في ذلك مبادئ التمييز والحيطة والتناسب.
لم تنبع هذه الأزمة من العدم. وعلى القادة السياسيين أن يكسروا اليوم دوّامات العنف والعذاب والانتقام المفرغة والاستعاضة عنها برؤية من التعايش السلمي.
ما هو الهدف الحقيقي في نهاية المطاف؟ الهدف بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين هو أن يصبحوا قادرين على العيش معًا، في احترام كامل لحقوق بعضهم البعض. ولا يزال الفلسطينيون والإسرائيليون الأمل الوحيد لبعضهم البعض لتحقيق سلام دائم.
وتتصاعد الصراعات أيضًا في أماكن أخرى من العالم. فنحن نواجه اليوم أكبر عدد من النزاعات العنيفة منذ العام 1945؛ وقد أشارت التقديرات إلى أن ربع البشر عاشوا خلال العام الماضي في أماكن متضرّرة بالنزاعات. وهذه الحروب والنزاعات عديمة الرحمة، وتزدري بشكل صادم أبسط حقوق المدنيين.
إنّ خطّتنا للتنمية المستدامة، التي وعدت بإنهاء الفقر المدقع بحلول نهاية هذا العقد، آخذة في التعثر، ويعود سبب ذلك جزئيًا إلى حرب روسيا على أوكرانيا، وما تحمل معها من آثار هائلة على أسعار الغذاء والوقود.
كما تتفاقم العنصرية والتمييز من جديد، لا سيما ضد النساء والفتيات، مع انتكاسات منسّقة تهدّد التقدم البارز الذي تم إحرازه في العقود الأخيرة. ولا تهدف الاستفزازات المتعمدة، على غرار الحوادث الأخيرة لحرق القرآن الكريم، سوى إلى دق الإسفين بين المجتمعات المحلية.
كما تحوّلت المنصات الرقمية إلى أنظمة مخصّصة لتوجيه خطاب الكراهية السافر إلى النساء والفتيات والمنحدرين من أصل أفريقي واليهود والمسلمين والمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهويّة الجنسانية وأحرار الهوية والميول الجنسية وحاملي صفات الجنسَيْن وأفراد الفئات الجنسية الأخرى واللاجئين والمهاجرين، والعديد من الأشخاص الآخرين من الأقليات. وتهدّد التكنولوجيات الرقمية غير القابلة للضبط، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والأسلحة الذاتية التشغيل وتكنولوجيات المراقبة، حقوق الإنسان.
وفي عدد متزايد من البلدان، تؤدي القيود الصارمة المفروضة على الحيّز المدني إلى تقويض العدالة النزيهة ووسائل الإعلام المستقلة والمساحات المخصصة لممارسة كل فرد حرياته الأساسية. كما أثّرت الجائحة بشكل عميق على جميع المجتمعات، وتركت ندوبًا لا تُمَّحى في اقتصاداتنا ومؤسساتنا وعلاقاتنا.
تؤدّي كل هذه الاتّجاهات إلى تفاقم أزمة كوكبنا الثلاثية الأبعاد المتسارعة والشاملة وإلى استفحالها، التي تشكّل خطرًا محدّدًا يهدّد حقوق الإنسان لجيلنا. قبل عامين، حذر الحريق الذي اندلع في بلدة ليتون الكندية العالم من المستقبل البائس الذي ينتظرنا، في حال لم ننجح في اتخاذ إجراءات حاسمة وحازمة في هذا الصدد. أمّا اليوم، وبعد صيف من الحرارة اللافحة وأنماط مناخية متطرّفة، فيمكننا التأكيد إلى حد ما أن المستقبل البائس قد حلّ بالفعل.
النزاعات. الفقر. الكراهية والانقسامات. تحويل التقدّم العلمي والتقني إلى سلاح. خنق الحريات المدنية. التغيّر المناخي القاسي والمتفشي. كلّها من الكوارث غير الطبيعية. بل هي من صنع الإنسان ومن الممكن توقّعها وهي خطيرة إلى حدّ لا يمكن تصوّره.
في مواجهة هذا الواقع، أعتقد أننا نشعر جميعنا بشيء من القلق، ولربما بشيء من الذعر حتّى، فيما نحسّ أنّ آفاقنا تضيق علينا اليوم تلو الآخر. لا سيّما بالنسبة إلى الشباب. فهذه الاتجاهات الجارفة ستؤثّر بالتأكيد على جميع المهن ومسارات الحياة، وكذلك على الأجيال المقبلة.
أنا هنا اليوم كي أؤكّد أنّه لا يزال من الممكن إدارتها وحلها، في حال تمكنت الشعوب والدول، بما فيها كندا، من تقاسم العمل لتمهيد الطريق نحو الحلول المطلوبة.
لكن كيف ستبدو هذه الحلول؟
اسمحوا لي أن أبدأ بقصّة قصيرة. قصة تسلّط الضوء جهارًا على حكمة أجدادنا في مواجهة ظلام وعدم اليقين يتردّد صداهما من جديد في عالمنا اليوم.
قبل خمسة وسبعين عامًا، كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت لتوها. ففي غضون 20 عامًا فقط، تمّ خوض حربين عالميتين حصدتا ملايين الأرواح، ودمّرتا العديد من البلدان. كما استخدَمَت المحرقة أكثر أنظمة الرعب والموت ترويعًا على الإطلاق، من أجل قتل الملايين من الناس. أمّا القنبلة الذرية فحصدت الأرواح بأشكال جديدة وعلى نطاق غير مسبوق. وأُجبر الملايين من الأشخاص على مغادرة منازلهم والاستقرار في أماكن غير مألوفة ومحفوفة بالتحديات.
فاجتمعت الدول من كل مناطق العالم بهدف إنشاء منظّمة الأمم المتّحدة وصياغة إعلان ينهي الدوّامات المروّعة للأهوال والدمار والفقر، التي عانى منها العالم.
وتوصّلت إلى خارطة طريق محدّدة. إلى نص يرسم لها وللأجيال المقبلة السبيل بعيدًا عن الحرب ونحو المصالحة وتسوية الخلافات. فخطّطت ورسمت الخطوات التي من شأنها أن تبني مجتمعات أكثر إنصافًا وأكثر مساواة، وبالتالي أكثر قدرة على المواجهة والصمود في وجه الأزمات.
كما نصّ الإعلان على الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
والحق في العيش بحرية بمنأى عن التمييز بكافة أشكاله وعن الاحتجاز التعسّفي والتعذيب. والحقّ في المحاكمة العادلة والمساواة في الحماية أمام القانون. والحقوق في التعليم والغذاء الكافي والرعاية الصحية والسكن والمياه النظيفة والصرف الصحي والحماية الاجتماعية وظروف العمل العادلة واللائقة. وحرية التعبير والرأي والحق في الخصوصية. والحق في حرية التجمع السلمي والحقّ في حرية تكوين الجمعيات والحقّ في المشاركة بحرية وبشكل هادف في الشؤون العامة. وحرية الدين أو المعتقد.
فنص هذا الإعلان على هذه الحقوق وغيرها من الحقوق الأخرى، المتأصلة في كل واحد منا، فيكم وفيّ على حدّ سواء، وأصبح علامة فارقة في المسيرة نحو المزيد من الكرامة الإنسانية.
وعلى مدى السنوات الـ75 الماضية، وجه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تقدمًا هائلًا في البلدان في جميع أنحاء العالم.
فتم تفكيك العديد من الهياكل التي أَبْقَتْ على التمييز العنصري الحاد والتمييز الجنساني الشديد. ونجحنا في قطع أشواط طويلة في مجالَي التعليم والصحة. وأصبحت الحاجة إلى حكومات ومؤسسات تصغي إلى الناس وتمدّهم بالمعلومات اللازمة وتشركهم مشاركة مجدية في كافة جوانب صنع القرار أكثر وضوحًا.
واستعادت دول كثيرة استقلالها.
والعديد من الأشخاص حقوقهم. ولعلّ الأهم من ذلك كله هو أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد ألهم نشاطًا نضاليًا وتضامنًا نابضَيْن بالحياة ومبدعَيْن وقويَّيْن، ما مكّن الناس من المطالبة بحقوقهم والانخراط بنشاط في مجتمعاتهم المحلية ومجتمعاتهم ككل.
وولّدت هذه الجماعات المزيد من الزخم من أجل القضاء على أشكال التمييز الإضافية، بما في ذلك تلك المُمارَسة ضد مجتمع الميم. وحثّت على الاعتراف بالحق في التنمية والحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة؛ واعتماد الإعلان بشأن حقوق الشعوب الأصلية، والإعلان المتعلق بالمدافعين عن حقوق الإنسان، والمعاهدات والقوانين المحددة والملزمة للنهوض بحقوق الإنسان وحمايتها.
وكلّي قناعة بأن المثل الأعلى لحقوق الإنسان كان من أكثر الحركات الفكرية بناءً في تاريخ البشرية، وبأنه أنجحها عامةً.
كيف يمكن لمثل هذا النص البسيط أن يوجه مثل هذا التحول العميق؟
لأنّ "الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أفراد الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية وغير القابلة للتصرف هو أساس الحرية والعدالة والسلام." إن تعزيز احترام حقوق الإنسان، جميع حقوق الإنسان المترسّخة في بعضها البعض، يولّد تنمية وسلامًا أكثر استدامة. وهذه الحقيقة دامغة بشكل غير اعتيادي.
والمجتمعات القائمة على حقوق الإنسان مجهزة بشكل أفضل كي تتصدّى للأزمات، سواء كانت ناجمة عن كوارث طبيعية أو نزاعات أو وباء أو كساد عالمي.
فهي تقدّم لشعبها كلّه، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو أي صفة أخرى، حياة أفضل. حياة تخلو من البؤس والخوف.
والاقتصادات والمجتمعات الشاملة والقائمة على المشاركة، التي تسمح بتقاسم الفرص والموارد والخدمات على نحو منصف، وحيث الحوكمة تخضع للمساءلة، تحقّق العدالة والفرص والأمل.
كما تساهم وسائل الإعلام الحرة والمستقلة، والحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي، في اتخاذ قرارات أفضل وأكثر استنارة. وهذه الحقوق ضرورية أيضًا لضمان شعور كل فرد في المجتمع، بما في ذلك الشباب، بأنّه يمكنه الإدلاء بدلوه وإسماع صوته خدمةً للصالح العام.
لا يمكن لأي بلد أو اقتصاد أن يتطوّر وينمو بكامل طاقته إن استبعد الكثير من الناس وحرمهم من الاستفادة من الفرص. فالحقوق في التحرر من التمييز وفي الحصول على الموارد والاستفادة من الفرص على قدم المساواة مع الآخرين، تعود بالفائدة على الجميع من دون أي استثناء.
إن جوهر الأمم المتحدة، وكل العمل الذي قامت به لدرء الحروب والفقر، مترسّخ في تلك القناعة المشتركة بأن كل إنسان متساوٍ في الكرامة والحقوق. النساء وذوو الإعاقة والأشخاص من كل دين وخلفية عرقية وميل جنسي وجنسية، كلّ واحد منّا يولد متساويًا مع الآخرين.
لطالما كانت كندا في طليعة عملية تعزيز حقوق الإنسان على المستوى العالمي وبناء نظام دولي قائم على القواعد والمعاهدات المتفق عليها. وأنا هنا اليوم بدعوة من الحكومة، كي أدعم شراكتنا في وقت تشهد فيه الأهداف الأساسية لحقوق الإنسان الكثير من الانتكاسات ومعارَضة عالمية شرسة، فضلاً عن ضرورة اعتماد نُهج متعددة الأطراف لمعالجة المشاكل التي تتشاطرها جميع البلدان. كما أنني أسعى إلى الانخراط مع المجتمع المدني الكندي والشعوب الأصلية المتواجدة في البلاد.
أودّ أن أؤكّد تضامني مع الشعوب الأصلية المتواجدة في كندا، التي عانت لأجيال عديدة الكثير من انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان.
فقد تمّ فصل أكثر من 150,000 طفل من الأمم الأولى والميتيس والإنويت عن أسرهم طوال 120 عامًا، وأجبروا على الالتحاق بالمدارس وعلى التخلص من لغاتهم وتقاليدهم، وحيث واجه الكثيرون منهم الاعتداءات الجسدية والجنسية. واكتشاف 215 قبرًا من دون شواهد لأطفال في مدرسة واحدة فقط من هذا القبيل في كولومبيا البريطانية قبل عامين، أمر صادم في حد ذاته، ويشير إلى أن العديد من الأطفال لربما ماتوا في ظروف غير واضحة. وقد وصف مجلس العموم العام الماضي بالإجماع نظام المدارس الداخلية بأنه إبادة جماعية.
بالإضافة إلى ذلك، اختفت 4,000 امرأة تقريبًا من الشعوب الأصلية بين العامَيْن 1956 و2016، أو لربّما تمّ قتلهنّ، من دون أن تحقّق السلطات بهذه الحوادث بطريقة مناسبة. وقد جد التحقيق الوطني في اختفاء وقتل نساء وفتيات من الشعوب الأصلية أن حالات الاختفاء والقتل بالآلاف هذه أتت أيضًا نتيجة الإبادة الجماعية.
وشكّل هذا الاعتراف خطوة هامة نحو تحقيق العدالة. ونصّت اتفاقات التسوية اللاحقة على التعويض على الناجين من المدارس الداخلية وأسرهم، وعلى الناجين من شعب الإنويت من النقل القسري من أوطانهم، والتعويض عن الضرر الناجم عن توفير مياه الشرب غير المأمونة. ولا تزال عدة دعاوى جماعية معلقة، بما في ذلك ما يتعلق بالتعقيم القسري لنساء الشعوب الأصلية وإساءة المعاملة في ما يسمى "بمستشفيات الهنود" والتمييز الشديد الذي مارسه العناصر المكلفون بإنفاذ القانون والسجون.
لا بدّ من معالجة هذه المسائل كلّها.
ويجب أيضًا الاعتراف على نطاق واسع، لا من جانب الحكومة الفيدرالية فحسب، بأن الصدمات المشتركة بين الأجيال الناجمة عن هذه الانتهاكات النظمية لحقوق الإنسان، والتمييز الشديد المستمر ضد شعوب الأمم الأولى والإنويت والمتيس، لا يزالان يولدان أضرارًا جسيمة حتّى يومنا هذا. ما يتطلّب اتخاذ إجراءات عاجلة وحاسمة وفعالة.
لقد أنجزت كندا قدرًا كبيرًا من العمل الجدير بالترحيب من أجل النهوض بحقوق النساء والفتيات. كما اتّخذت موقفًا مبنيًا على المبادئ بشأن حقوق الإنسان للمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وأحرار الهوية والميول الجنسية وحاملي صفات الجنسَيْن وأفراد الفئات الجنسية الأخرى، بما في ذلك خطة العمل الفيدرالية بشأن مجتمع الميم وأصحاب الروحَيْن؛ وأرحّب أيضًا بنهجها المنفتح على حماية اللاجئين والهجرة. وكما هي الحال في معظم بلدان العالم الصناعي، فإن الأسواق المالية في كندا تهدّد الحق في السكن بتكلفة مقبولة، ما يولّد صعوبات متزايدة للأسر والشباب. وفيما أنوّه بالعمل الحازم الذي قامت به كندا من أجل الاعتراف بأن السكن هو حق أساسي من حقوق الإنسان، أشجع السلطات على زيادة توافر الوحدات السكنية بأسعار مقبولة.
أودّ أيضًا أن أسلّط الضوء جهارًا على أزمة المناخ الملحّة، لا سيما بالقرب من القطب الشمالي، حيث تولّد حالة الطوارئ المناخية أثرًا هائلاً بشكل غير متناسب. ولكندا دور بارز تؤدّيه في هذا الصدد، بما أنّها تستقبل أغلبية شركات التعدين والتنقيب عن المعادن. وتُعتَبَر استراتيجية الحكومة للسلوك التجاري المسؤول وإنشاء منصب أمين المظالم للمؤسسات المسؤولة في كندا في العام 2019 من التدابير الحاسمة في هذا المجال. لكن لا بدّ من بذل المزيد من الجهود بغية التخلص تدريجيًا من جميع أنواع الوقود الأحفوري على وجه السرعة ومن دون أي استثناء، وتحقيق التوافق التام مع المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان.
وما من بديل عن ذلك في حال أردنا للبشرية أن تنعم بمستقبل آمن على كوكب الأرض. ولا بدّ لكندا من أن تبذل المزيد من الجهود في مجال تغيّر المناخ لأنّ عملها في هذا الصدد ضروري ولا غنى عنه، سواء من حيث المحادثات العالمية المتعثرة أو مصادر الطاقة المحلية والعالمية. ويسرني أن ألحظ أنه تم في وقت سابق من هذا العام اعتماد مشروع قانون يعترف بالحق العالمي في بيئة صحية.
وهذا مجال يمكن أن تساهم فيه قيادة هذا البلد على كبح اليأس بين الشباب. ففي دراسة استقصائية شملت 1,000 طالب في جميع أنحاء كندا ونُشِرَت في وقت سابق من هذا العام، أفاد 78 في المائة من المشاركين أنّ تغيّر المناخ أضر بصحتهم العقلية، لدرجة أن 37 في المائة منهم أبلغوا عن أثر سلبي على أدائهم اليومي. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه النتائج تتماشى إلى حد كبير مع نتائج الدراسات العالمية الأخرى. فخلال الشهر الماضي، وجدت دراسة استقصائية شملت أكثر من 36,000 شخص في 30 دولة أجرتها مؤسسة المجتمع المفتوح أن تغيّر المناخ مرتبط بالفقر وعدم المساواة باعتباره موضع القلق العالمي الرئيسي للشعوب. وخلصت الدراسة أيضًا إلى أنّ ثقة الشباب في قدرة السياسات الديمقراطية على حل القضايا أقل بكثير من ثقة المجموعات الأكبر سنًا، وأعتقد أنّ هذه النقطة هي المفتاح.
بغية بناء الثقة في الحكومة، من الضروري أن تعترف الحكومة بحقوق الناس وتعزّزها، وأن تقدّم حلولًا عادلة وفعالة.
نواجه اليوم تصادم أزمات متعدّدة، وانقسامًا متزايدًا بين البلدان وتكتّلها ضمن مجموعات متنافسة وفق مصالحها.
ما هو السبيل إلى الحلّ؟
يجب أوّلًا أن نتغلب على الانقسامات الجيوسياسية. ونحن بحاجة إلى لغة مشتركة وحسّ بالأهداف المشتركة، بغية التوصّل معًا إلى حلول مناسبة. وما من سبيل آخر على الإطلاق. بعبارة أخرى، نحن بحاجة إلى نهج محايد إيديولوجيًا، لكن ينطوي على القيم الإنسانية العميقة والمشتركة.
ثانيًا، يجب أن تكون الحلول المُقترحة من أجل التصدي للتحديات الحالية متسقة مع بعضها البعض. ويجب أيضًا أن تخفف التدابير الرامية إلى النهوض بالتنمية المستدامة من حدة تغير المناخ وأن تتصدى للتمييز النظمي. فإذا قوض أحد مسارات العمل مسارًا آخر، تأتي النتيجة مضيعة فوضوية للوقت. ولكن إن كان من الممكن لحل ما البناء على حل آخر، فإننا نحرز تقدمًا في هذا الصدد.
ثالثًا، يجب أن تنطوي الحلول على أعمق ردود فعلنا، أي التضامن والتعاطف. فالأشخاص الأفقر اليوم هم الأكثر تضررًا. وفي ما يتعلق بتغير المناخ مثلًا، يجب أن يكون واضحًا أن البلدان والشركات التي تسببت بتغير المناخ ينبغي أن تساهم في تصحيح تلك الأخطاء.
رابعًا، تحتاج الحلول الفعالة أيضًا إلى كامل إسهامات جميع الأفراد في كل مجتمع. فمشاركة الجميع الحرة والهادفة والنشطة ضرورية لإحداث تغيير حقيقي. نحن بحاجة إلى الاستفادة من إبداع الجميع ومهاراتهم وملاحظاتهم النقدية، لا سيما أولئك الذين أسكتتهم مواضع الخلل السائدة اليوم وألحقت الأضرار بهم. وفي كل جانب من جوانب صنع القرار، من الحيوي بناء الجسور بين الناس، لا سيما مع الأكثر تضررًا، ومع مؤسسات الحكومة والأعمال التجارية.
باختصار، نحن بحاجة إلى مبادئ توجيهية تنبع من القيم المتجذرة في كل ثقافة إنسانية. نحن بحاجة إلى أن تغطي أهدافنا الأساسية، أي المساواة بين البشر والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، المجالات السياساتية والتحديات كافة. نحن بحاجة إلى تفكيك التمييز والحواجز القمعية الأخرى التي تحول دون مشاركة الناس.
نحن بحاجة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
نعم، لقد تمّت صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عصر ما قبل تغير المناخ. في حقبة يبدو وكأنّها بعيدة. لكنه يعتمد على التجربة والدروس المستفادة من كافة أنواع الكوارث التي قد تواجه البشرية يومًا. وفيما لا يمكن لأحد أن يدعي أنه تم القضاء على انتهاكات حقوق الإنسان، أثبتت توجيهات الإعلان العالمي التي تم تصورها في أوقات اكتنفها اليأس والظلام، أنها عملية وبرغماتية وفعالة. ويعلمنا الإعلان كيف يمكن للبشرية أن تبقى على قيد الحياة وأن تستمرّ في ظلّ الظروف السائدة اليوم.
وتدابير حقوق الإنسان هي السبيل الوحيد لتحويل التنمية إلى تنمية شاملة وتشاركية، وبالتالي إلى تنمية مستدامة. وهي السبيل الوحيد لتشكيل القوانين العادلة التي من شأنها أن تساهم في حل النزاعات والنهوض بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
وهي السبيل الوحيد لضمان أن تكون المجتمعات منصفة، وأن تستفيد استفادة كاملة من مساهمات الأفراد كافة، من دون أي تمييز أو قمع.
والسبيل الوحيد لبناء سلام مستدام. لأن السلام الدائم والمستدام، في الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى من العالم، ينبع من العدالة والمساءلة.
ولكل دولة مصلحة في تعزيز أساس متين لحقوق الإنسان تترسّخ في صميمه السياسات العامة والحوكمة.
وبإمكان كل فرد أن يختار تشكيل حياته بما يتماشى مع هذه القيم، وعلى رأسها الحقيقة البسيطة القائلة بأنه بغض النظر عن الجنس أو العرق أو المعتقد أو الميل الجنسي أو الإعاقة أو الوضع من الهجرة أو أي صفة أخرى، نتمتّع جميعنا بقيمة متساوية وبحقوق متساوية.
آمل أن يُذكَر العام 2023 على أنه نقطة التحول التي جدّدنا خلالها التزامنا بحل التحديات من خلال حقوق الإنسان. وتشكّل هذه الذكرى السنوية الـ75 لاعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فرصة لاستعادة الروح التي أدت إلى اعتماده، ولترجمته في المستقبل كبوصلة توجّهنا اليوم بعيدًا عن الخطر وكمجموعة من الحلول المتماسكة التي صمدت في وجه الزمن.
وتُتَوَّج مبادرة حقوق الإنسان 75 التي تديرها مفوضيّتنا بحدث رفيع المستوى يُنَظّم في 11 و12 كانون الأول/ ديسمبر في جنيف. وأشجع الحكومة الكندية، والشركات الكندية ومجموعات المجتمع المدني، على الالتزام بتعهدات صارمة ومحفزة بغية اتخاذ الإجراءات اللازمة في مجال حقوق الإنسان، والمساهمة في إحداث التغييرات التحويلية التي نحن بأمسّ الحاجة إليها اليوم.
حقوق الإنسان مهمة في أي وقت كان لأن الناس دومًا مهمون، ودعم حقوقهم والحفاظ على رفاههم هو علّة وجود الحكومات بحدّ ذاتها. إلاّ أنّ هذه القوانين والمبادئ حيوية لا سيما في أوقات الأزمات، عندما يكون المستقبل مقلقًا والخيارات محدودة. عندئذ بإمكان القيم الأساسية وحكمة أجدادنا ودروسهم أن ترشدنا بخطوات ثباتة نحو المسار الصحيح.
وشكرًا.