الخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان
"التحدّيات القائمة في وجه حقوق الإنسان اليوم"
18 نيسان/أبريل 2019
كلمة مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليت، في حرم مركز حقوق الإنسان والقانون الإنسانيّ التابع لكليّة الحقوق في الجامعة الأمريكيّة في واشنطن
11 نيسان/ أبريل 2019
حضرة البروفيسور غروسمان المحترم،
أعزائي الطلّاب،
تحيّة طيّبة وبعد،
نشكركم جزيل الشكر لدعوتكم الموقرة لنا؛ فمن دواعي سرورنا واعتزازنا أن نكون معكم هنا اليوم.
سنبذل قصارى جهدنا كي نختصر كلمتنا، إلّا أنّنا نرغب أيضًا في سماع وجهات نظركم وأفكاركم المستنيرة حول حماية حقوق الإنسان في يومنا هذا. فلنبدأ إذًا على الفور.
نعيش اليوم في زمنٍ تطغى عليه تناقضاتٍ شتّى. ففي الوقت الذي تسعى فيه الأدوات الرقميّة والاقتصاد العالميّ وحتّى الخصائص الديمغرافيّة إلى تقريب الشعوب من بعضها البعض، أمسى صنّاع السياسات والمجتمع الدوليّ والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف أكثر تجزئةً من أيّ وقتٍ مضى، بحيث بات العديد من قادة الدول أقلّ التزامًا بالعمل معًا من أجل تحقيق المصلحة العامة، وذلك من خلال ابتعادهم عن اعتماد مبادئ وحلولٍ مشتركةٍ للمشاكل المشتركة، ما يؤدّي إلى تفاقم المعاناة والفوضى السائدة.
ومع ذلك، تمهّد مساعي تحقيق العدالة الطريق أمام السلام، إلّا أنها لا تلغي الخلافات القائمة في هذا الشأن. لكن، عندما تثق الشعوب في هيكل قوانين وقواعد ومعايير محايد ومستقلّ، تدرك أنّها ستتمكّن من حلّ نزاعاتها سلميًّا. ويطبّق ذلك ضمن الدول التي يكون فيها المحامون على إدراكٍ تامٍّ بذلك، وبين تلك التي تشهد نزاعاتٍ بين بعضها البعض على حدّ سواء ما دامت سيادة القانون الدوليّ تحتفظ بثقة الجهات الفاعلة المعنيّة.
وفي هذا السياق، تعدّ الحلول المشتركة المقترحة لمواجهة ذلك فعّالةً، بما في ذلك تلك المتعلّقة بقوانين مشتركةٍ أو اتفاقيّةٍ مبرمةٍ خاصة بأعمالٍ مشتركةٍ تستهدف مشاكل مشتركة قائمة على مبادئ وسياسات مشتركة ترتكز على الحوار وتبنى على مبادئ الإدماج وتسترشد بأهداف حقوق الإنسان، التي من شأنها تحقيق نتائج أفضل وأكثر فعاليّةً.
وقد سعت في الماضي للتشجيع على تحقيق السلام والتنمية، ولا تزال حتّى اليوم تتطلّع لاستهداف المستقبل، أيّ مستقبلكم أنتم الذي ستتشاركونه مع ملياراتٍ من الشعوب الأخرى في مختلف أنحاء العالم.
وقد لمست ذلك شخصيًّا عندما عُدت إلى بلدي الأمّ، شيلي، بعد سنواتٍ عديدةٍ من النفي احتماءً من القمع والاضطهاد، وعندما عملت كطبيبةٍ متخصّصةٍ في علاج الأطفال الذين تعرّض آباؤهم لأفظع أنواع التعذيب أو الاختفاء في سانتياغو، وعندما تقلدتُ منصب وزيرة الصحة ووزيرة الدفاع وتوليّتُ مهام رئاسة الدولة والحكومة. وفي ظلّ كلّ هذه الظروف، نجحت السياسات القائمة على احترام حقوق الإنسان في تحقيق نتائج أفضل تستفيد منها الشعوب اجتماعيًّا واقتصاديًّا وحتّى خارج نطاق حدود الدولة على حدّ سواء، وساهمَتْ، وبالتالي، في تمكين كافة مساعي المصالحة والحدّ من تواتر المظالم والنزاعات والصراعات وأوجه عدم المساواة والمعاناة والتمييز أيضًا.
وكذلك، تساهم السياسات المعنيّة بتحقيق العدالة والحماية الاجتماعيّة في تعزيز الاقتصادات وأطر التعليم والرعاية الصحيّة وغيرها من الخدمات الأساسيّة الأخرى والتأثير على النظم السياسيّة التي تتبنّى، وبكلّ نشاطٍ، مجموعةً من الآراء المساهمة الصاخبة.
وبالتالي، تسعى السياسات القائمة على احترام حقوق الإنسان إلى بناء الثقة وتعزيز الوئام الاجتماعيّ ونشر الأمل والتفاؤل.
وقد شهدتُ على ذلك بنفسي. شهدتُ على نموّ دولةٍ منقسمةٍ تضاءلت قوّاها بمرارةٍ وبصورةٍ أكثر شموليّةً وتطوّرًا وعدلاً. وقد حدث ذلك مرارًا وتكرارًا في دولٍ مختلفةٍ من العالم أجمع، وذلك بفضل سعي السياسات المركّزة على احترام حقوق الإنسان الدؤوب إلى تحقيق العدالة والمساواة وصون الكرامات.
وقد نشهد على ذلك يحدث مجدّدًا اليوم. لذلك، سنسلّط في حديثنا الآن الضوء على بعض أبرز التحدّيات التي لا نزال نواجهها، وبشكلٍ متزايد، في عالمنا اليوم، وفي الوقت عينه سنسعى إلى جعلكم تؤمنون أنّه، وعلى الرغم من صعوبة كلّ هذه التحدّيات، من الممكن معالجتها والتصدّي لها دائمًا وأبدًا.
فلنستعرض، إذًا، معًا مختلف المشاكل التي نواجهها في عصرنا اليوم قبل محاولة إيجاد حلولٍ فعّالةٍ لها.
فلنبدأ بظاهرة تغيّر المناخ التي تشكّل تهديدًا شاملاً ومدمّرًا يطال حقوق الإنسان وحياته على حدّ سواء.
يؤدّي تغيّر المناخ إلى تعزيز حركات النزوح، وذلك من خلال الحدّ من قدرة الشعوب على استغلال فرص العيش الكريم في دول ولدت وترعرعت فيها، وتنتشر فيها أوجه الفقر المدقع وانعدام الأمن الغذائيّ وتفاقم ظاهرة الإجهاد المائيّ وتسارع وتيرة الأضرار البيئيّة الناتجة عن ذلك، الأمر الذي من شأنه أن يشكّل تهديدًا واضحًا وقائمًا يطال كرامة الإنسان والمكاسب التي تحقّقت خلال تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. وبالتالي، قد يساهم تغيّر المناخ في زيادة حدّة التوتّرات وانعدام المساواة داخل المجتمعات، ما يؤدّي بدوره إلى نشوب النزاعات والصراعات، بما فيها العنيفة منها.
وينطوي ذلك بالتالي على تحدّياتٍ أخرى لا بدّ من التطرّق لمعالجتها، وهي الحروب؛ بحيث يساهم الدمار الذي خلّفته صراعات اليوم، وما ترتّب عنها من تكاليف اقتصاديّةٍ وإنسانيّةٍ جمّةٍ، في إحداث أضرارٍ دائمةٍ وواسعة النطاق ستتوارثها الأجيال ولن يسفر عنها أيّ فائزٍ في ظلّ صراعٍ يقضي على الأرواح ويدمّر البنى التحتيّة والاقتصادات وحتّى الآمال.
وقد انخفضت اليوم أعداد الحروب الناشبة بين مختلف الدول، إلّا أن النزاعات والصراعات لا تزال تتفاقم بينها، لا سيّما مع مشاركة الدول الأجنبيّة فيها.
لذلك، لا بدّ لنا من أن نبذل جهودًا أكبر لترشيد عمليّة انتشار الأسلحة ومخاطر النزاعات والصراعات ومراقبتها. ففي شهر شباط/ فبراير من العام الجاري، حذّر الأمين العام للأمم المتّحدة خلال مؤتمر نزع السلاح المنعقد في جنيف، قائلاً: "سأكون صريحًا معكم اليوم؛ إن عناصر الهيكل الدوليّ الحالي المعتمد للسيطرة على الأسلحة حول العالم الرئيسة آخذةٌ في الانهيار، بحيث قد كثَّفت تقنيّات تكنولوجيا الأسلحة الجديدة من مستوى المخاطر المحدقة التي تواجه العالم بأشكالٍ لم نستوعبها بعد، ولا يمكننا حتّى تصورها."
لكن، عوضًا عن ذلك، أمست الدول اليوم تستغل الاتفاقيّات المبرمة حاليًا. وقد مضى 70 عامًا على الآداب الأساسيّة التي نصّت عليها اتفاقيّات جنيف، ويتعيّن على كافة أطراف النزاع أن تحترمها لتحافظ على حياة المدنيّين والجنود العاجزين عن القتال وأسرى الحرب وكرامتهم. ومع ذلك، لا تزال الجهات الفاعلة المشاركة في صراعات اليوم تتخلّف عن احترام حتّى أكثر هذه الالتزامات بساطةً.
وفي هذا السياق، يُفرض الحصار لتجويع المدنيّين عمدًا، ويُحرَمون من المساعدات الإنسانيّة المقدّمة لهم، ومن أبسط الخدمات والرعاية الأساسيّة. وتُقصف المرافق الطبيّة مرارًا وتكرارًا عمدًا أيضًا. وفي بعض الحالات، تُستخدم الاعتداءات المنظّمة على النساء، بما في ذلك اعتماد الاغتصاب كسلاح حرب، وكسياسةٍ معتمدةٍ لتفكيك الروابط الأسريّة والمجتمعيّة وإحباط الخصوم. وكذلك، يتعرّض الأطفال لشتّى أنواع الاضطهاد والتعذيب والقتل والخطف أمام أعين آبائهم لنشر الخوف والذعر على نطاق واسع وتجنيدهم أو حتّى استخدامهم كعبيد جنسيّين محرومين من أبسط حقوقهم التعليميّة.
وعلى الرغم من اتّخاذ تدابير معيّنة لتحديد هذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عن الاضطلاع بها، بما في ذلك تلك التي تقع على عاتق مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان مسؤوليّة الالتزام بها، إلّا أن دول العالم لا تزال تتعذّر عن دعمها بالإجماع. لذلك، يتعيّن على الحكومات الاضطلاع بدورٍ أفضل بكثيرٍ كي تدعم مساعي المساءلة عن انتهاكات أحكام القانون الدوليّ الإنسانيّ.
وبالتالي، تؤدّي النزاعات والصراعات إلى إفقار الأمم وتعزيز حركات النزوح. فوفقًا للمفوضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللّاجئين، يُجبر أربعة وأربعون ألفًا وأربعمائة (44,400) شخص على الفرار من منازلهم كلّ يوم بسبب النزاعات والصراعات والاضطهاد، ليتشرّدوا داخليًّا، في الوقت الذي يسعى البعض الآخر منهم، وبكلّ يأسٍ، إلى البحث عن الأمن والسلام عبر الحدود الدوليّة، أو حتّى الفرار من الحرمان بعد فقدان الأمل في أن يتمتّع بالقدرة على الاستفادة من أبسط متطلّبات الكرامة الإنسانيّة الأساسيّة في وطنه.
ويعدّ هؤلاء المهاجرون من النساء والرجال والأطفال مثلنا جميعًا تمامًا. فلو كنّا في مكانهم لاتّخذنا ربّما القرارات نفسها وشرعنا في الرحلات نفسها نحو المجهول. فنحن متساوون جميعًا أمام أحكام القدر والمصير. وبدلاً من أن تسعى السلطات المعنيّة لاتّخاذ التدابير اللّازمة ومساعدتهم وحمايتهم، تقف الحواجز أمامهم عائقًا، لتدفع بهم نحو الخطر وتهينهم وتهدّدهم وتحتجزهم وتعرّضهم لمخاطر لا لزوم لها أبدًا.
وقد يُقال الكثير والكثير عن هذه التحدّيات الثلاثة المترابطة جميعها ببعضها البعض، بحيث يعزّز تغيّر المناخ من وتيرة الهجرة والنزاعات والصراعات التي تساهم بدورها في تأجيج نار الهجرة، إلّا أنها لا تشكّل سوى عينةً ضئيلةً عن عدد أكبر من التحدّيات الأخرى البارزة التي تطال حقوق الإنسان ويتوسّع نطاق انتشارها وشدّتها أكثر فأكثر اليوم.
أمّا بالنسبة إلى ظاهرة انعدام الأمن الغذائيّ، فبعد العديد من السنوات التي انخفضت فيها معدّلات سوء التغذية وانعدام الأمن الغذائيّ، ارتفع عدد الأفراد الذين يعانون "نقصًا في التغذية" من الممكن الوقاية منه بالكامل تقريبًا، من 777 مليون نسمة في العام 2015 إلى 815 مليون نسمة في العام 2016. ويعود ذلك، وبشكلٍ أساسيٍّ، إلى النزاعات والصراعات القائمة، وغيرها من الكوارث الأخرى المرتبطة بتغيّر المناخ، كالجفاف على سبيل المثال. وبالتالي، يمثّل 815 مليون نسمة 11 في المائة من البشريّة. وبمعنى آخر، لا يزال فردٌ واحدٌ من بين كلّ تسعة أفراد من حول العالم على قيد الحياة من دون ما يكفيه من طعام.
وكذلك، لا تزال التفاوتات الاقتصاديّة آخذةً في الازدياد، بحيث باتت الثروات متاحةً بشكلٍ أكبر من أيّ وقتٍ مضى على تاريخ البشريّة. فعلى الصعيد العالميّ، نمت إنتاجيّة العمل بمعدّل تخطّى 2 في المائة خلال العام 2017. ومع ذلك، لا يتمّ تقاسم هذه الثروات بشكلٍ منصفٍ. فعلى النحو الذي أشارت له منظمة العمل الدوليّة، بدأت حصة العمالة من الناتج المحليّ الإجماليّ تنخفض منذ 25 عامًا ولا تزال هذه الوتيرة آخذةً في الاستمرار.
وأنا متأكّدة كلّ التأكيد أن الجميع هنا في القاعة قد سمع بالتحليل الذي أعدّته منظمة "أوكسفام"، الذي أكّد أن 82 في المائة من الثروات المحقّقة في العام 2016 قد اكتسبها أغنى سكان العالم الذين تبلغ نسبتهم 1 في المائة فقط، في الوقت الذي لم يشهد فيه أفقر البشر أيّ تغيير يطرأ على دخلهم، فبقَوا خارج المعادلة.
وفي خلال الأسبوع الماضي، أشار تقرير أساسيّ جديد صدر عن الأمم المتّحدة شاركت في إعداداه أكثر من 60 منظّمة دوليّة مختلفة، إلى أنّ معظم سكّان العالم يعيشون الآن في دولٍ تزداد فيها حدّة تفاوت الدخل. وفي هذا السياق، أوضح تقرير تمويل التنمية المستدامة للعام 2019 أن انخفاض نموّ الأجور وتزايد حالات اللامساواة ومحدوديّة الإجراءات المتّخذة لتعزيز الامتثال لأهداف التنمية المستدامة قد تقوّض تنفيذ خطة التنمية المستدامة للعام 2030 الرامية إلى تحقيق منافع هائلة تستفيد منها البشريّة جمعاء.
وفي عددٍ كبيرٍ من الدول، تُعتَمَد حاليًا القوانين والسياسات الخاصة بتقييد الأنشطة المدنيّة، وتجريمها حتّى في كثير من الحالات أيضًا. وفي هذا السياق، تنطوي هذه التدابير على قيود مفروضة على حريّة التعبير والمشاركة في المظاهرات السلميّة، وعلى المصادر الإعلاميّة الحرّة والمستقلّة، وعلى القدرة على تسجيل المنظمات غير الحكوميّة المعنيّة باحترام حقوق الإنسان والحصول على التمويل الأجنبيّ اللازم، وكذلك التشريعات الغامضة المعنيّة بمكافحة الإرهاب التي من الممكن إساءة استخدامها لاستهداف أيّ شكلٍ من أشكال النقد.
ومنذ العام 2015، أصبح مقتل ما لا يقلّ عن مدافعٍ واحدٍ عن حقوق الإنسان يوميًّا، بمن فيهم الصحفيّين والنقابيّين، يشكّل حقيقةً جديدةً ومروّعةً لا يتمّ التحقيق في مجراها بشكلٍ فعّالٍ أبدًا. وغالبًا ما يعدّ هؤلاء المدافعون عن حقوق الإنسان من النشطاء البيئيّين الذين يقفون في وجه المشاريع الإنمائيّة أو التجاريّة، ولا يتلقّون أيّ حماية تُذكَر من الدولة.
وتنطوي مساعي القضاء على الحيّز المدنيّ على تداعياتٍ على مجموعةٍ واسعةٍ جدًّا من السياسات الحكوميّة وحقوق الإنسان على حدّ سواء. وفي هذا السياق، تعدّ مشاركة الأفراد في عمليّات صنع القرار قوةً حيويّةً ضروريّةً تدفع عجلة المساءلة، وتضمن تلبية السياسات مختلف احتياجات المجتمع الحقيقيّة. فعندما تسيطر الحكومات على كافة الأصوات الناقدة وتقمعها، وتتوقّف بالتالي عن الإنصات إلى مساهمات الأفراد بشأن سياسات الإسكان، وسياسات التعليم والصحّة والتنمية والدفاع وغيرها من قطاعات الدولة الأخرى، تنسى أن مبادئ الحوكمة الرشيدة لا تستند إلاّ إلى خدمة الشعب فحسب. وبمعنى آخر، تساهم التدابير التي من شأنها الحدّ من إمكانية إعمال حقوق المجتمع المدنيّ وعكس آرائه في تقويض أملنا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ومن بين المجالات الأخرى التي يجدر بنا التنبّه إليها أيضًا حقوق المرأة. فقد تعثّر التقدّم الذى أُحرِزَ خلال العقود السابقة، وتراجع في بعض الحالات حتّى. لذلك، من المقلق للغاية أن نشهد ذلك فعلاً في بعض الدول التي باتت تظهر هاجسًا جديدًا متمثّلاً في الرغبة في السيطرة على القرارات التي تتّخذها المرأة إزاء جسدها وحياتها الخاصة والحدّ منها، وتعتبر أنّ الدور الذي تؤدّيه يقتصر بشكلٍ أساسيّ على إنجاب الأطفال ورعاية الأسرة، ما يتركها أفقر بكثيرٍ من الرجل؛ بحيث أنها تحظى بممتلكاتٍ أقلّ وبفرصٍ أقلّ وبإمكانيّات أقلّ في الحصول على الخدمات الأساسيّة والاستفادة منها، وحتّى بحريّة أقلّ بكثير في التعبير عن رأيها واتّخاذ قراراتها الخاصة.
ويشعر الكثير منّا بقلقٍ بالغٍ إزاء تفشّي الكراهيّة ضدّ أفراد الجماعات العرقيّة والإثنيّة والدينيّة، وغيرهم من الأجانب والأقليّات الأخرى. وفي العديد من الدول، باتت الأفكار المتطرّفة اليوم جزءًا لا يتجزأ من التيار السياسيّ السائد في موازاة الرؤية العالميّة القوميّة والاستبعاديّة والمتعصّبة التي تهاجم الجهود المبذولة للحفاظ على الاتفاقيّات المتعدّدة الأطراف المبرمة والتدابير المتّخذة التي تضمن تحقيق العدالة الاجتماعيّة المنشودة، فتساهم وبالتالي في تفاقم حدّة عدم الاستقرار العالميّ بسبب التهرّب من الأعباء العالميّة عوضًا عن تقاسمها.
وقد لاحظتم ربما مدى ارتباط هذه التحدّيات ببعضها البعض، المتمثّلة في تغيّر المناخ، ومعاناة المدنيّين من النزاعات والصراعات، والنزوح القسريّ، وعدم المساواة والفقر المدقع، والتهديدات التي تطال الحيّز المدنيّ، واضطهاد النساء وتعذيبهنّ، وتزايد انتشار الكراهيّة ضدّ أفراد الأقليّات والمهاجرين، والرؤية العالميّة السائدة التي تقوّض مساعي البحث عن اتفاقيّة بشأن العمل المشترك. وبالتالي، تساهم كافة هذه الاتّجاهات السلبيّة، التي تحدّ من آمالنا في بناء مستقبلٍ لائقٍ، في تسريع وتيرة تفاقم هذه التوجّهات وإبرازها.
ومع ذلك، تعدّ الحلول المقترحة للتصدّي لها مرتبطةً ببعضها البعض.
وفي هذا السياق، تختار بعض الدول، التي لا تعدّ بالضرورة من بين تلك الأكثر ثراءً من حيث الدخل أو الموارد المتاحة، أن تتبنّى سياساتٍ مبدئيّةٍ أكثر فعاليّةً من غيرها. وباعتبار أنها تستند إلى مجموعةٍ كاملةٍ من حقوق الإنسان وتسعى بالتالي إلى اتّخاذ خطواتٍ من أجل تعزيز الحقوق المدنيّة والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية جميعها معًا، فتساهم في استحداث ديناميكيّةٍ معزّزةٍ من شأنها أن تمكّن مساعي العدالة والحريّة المدنيّة من اعتماد سياسات تنمويّة سليمة وتدابير الحماية الاجتماعيّة، من دعم مساعي تحقيق الوئام الاجتماعيّ وتعزيز الثقة المتبادلة.
وتشكّل إثيوبيا أحد أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك، حيث نشهد حاليًا على تقدّمٍ مشجّعٍ يُحرز، فضلاً عن تدخّل الأمم المتّحدة الذي ساهم في وضع حدّ جذريّ لحوالى 300 عام من الفصل العنصريّ والنزاعات والصراعات الطويلة الأمد المريرة السائدة في جنوب إفريقيا، وقد تحوّلت اليوم إلى مؤسّسات ديمقراطيّة تُعنى بالتصدّي لهذه الظواهر القائمة. وفي هذا الإطار، تحظى مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، التي نترأسها، بخبراتٍ مماثلة في العديد من مجالات التدخّل في كلّ من غينيا ونيبال وتوغو وغيرها من الدول الأخرى.
لا يتحقّق ذلك بومضة جفن وبين ليلةٍ وضحاها، فإحراز التقدّم المنشود يستغرق وقتًا. ومن الممكن لنا أن نمنع النزاعات الصراعات – وقد نجحنا في ذلك.
ومن هذا المنظور، لن نرى أبدًا مراسلة الأخبار تعلن أنها تنقل آخر الأحداث والمستجدّات مباشرةً من "أرضٍ لم يشهد تاريخها أيّ حروبٍ أو مجازر"؛ فواقع الأخبار مغاير لذلك، ولكنّ العالم متّفق مع ذلك.
قد لا يتّضح ذلك وسط الاضطرابات والفظائع التي ولّدتها الأحداث العالميّة. ومع ذلك، تبلغ النزاعات والصراعات القائمة في غالبيّة الدول حدّها قبل أن تبلغ نقطة اللاعودة. وفي حال تفاقمها، يتمّ التوسّط لحلّها وإبقائها تحت السيطرة قدر المستطاع، لتشكّل مساعي المصالحة الدائمة المبذولة حلّاً ممكنًا وفعّالاً.
ولا تعدّ تلك المساعي المبذولة مناسبة فحسب، بل فعّالةً من حيث التكلفة المترتّبة عليها أيضًا. فعندما تبوء الجهود الرامية للتقيّد بمبادئ حقوق الإنسان بالفشل وتساهم الانتهاكات والإساءات في صراعاتٍ وأزماتٍ متأجّجة، تُسفك الدماء وتتدهور الاقتصادات وتصبح المساعدات الإنسانيّة ضروريّة.
وتحقيقًا لأهدافنا المنشودة، تقضي كافة مكاتبنا الميدانيّة جزءًا كبيرًا من وقتها في تدريب المسؤولين الحكوميّين وقوّات الأمن والشرطة والمجتمع المدنيّ. وبالتالي، تساهم مساعي المراقبة التي نبذلها لرصد بعض الحالات المحدّدة في تقديم التوصيات بشأن التغييرات السياسيّة اللازمة. وكذلك، نعمل جاهدًا من أجل تعزيز القوانين والمؤسّسات المعنيّة بحماية الحقوق على المدى الطويل، بما في ذلك المحاكم والبرلمنات والمجالس الإقليميّة والمدارس والمجموعات المجتمعيّة، في الوقت الذي نسعى فيه أيضًا لتمكين مختلف المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدنيّ، بمن فيهم المدافعين عن حقوق الأقلّيات، وذلك حتّى يتمكّنوا من مواجهة كلّ المصائب بفعاليّةٍ وثقةٍ.
وفي هذا السياق، يتميّز كلّ موقف محدّد بخصائص مختلفة. ومع ذلك، يتمثّل الدافع الأساسيّ والمشترك في ترجمة مبادئ حقوق الإنسان إلى تدابيرٍ عمليّةٍ ملموسةٍ. فكيف من الممكن استجواب البشر من دون استخدام أساليب التعذيب المتعدّدة؟ وكيف من الممكن أيضًا إدارة الاحتجاجات السلميّة من دون التطرّق إلى اعتماد العنف كأداةٍ لذلك؟ وكيف من الممكن التأكّد من قدرة الأقلّيات على إبداء آرائها والمشاركة في الحياة العامة على أكمل وجهٍ، وحتّى من ضمان احترام حقوق المرأة، وغيرها من المجموعات الأخرى التي تعاني شتّى أنواع الاضطهاد والتمييز، في المطالبة بحقوقها أمام السلطات القضائيّة التي لا يزال يترأسها الرجال في أغلب الأحيان؟
قد لا تشكّل تلك المساعي العمليّة جوهر الأفكار التي تطرأ على البال بمجرّد التحدّث عن حقوق الإنسان، وتتمحور حول أبرز المثل العليا التي تدعمها مجموعةٌ كبيرةٌ من الإجراءات العمليّة.
ما الهدف من اطلاعكم على كلّ ذلك؟ لا تقتصر تلك المساعي على الجهود التي نسعى نحن لبذلها فحسب، بل تتخطّى ذلك لتغطّي نطاق مسؤوليّات الغير أيضًا.
تتمثّل مسؤوليّاتكم أنتم أيضًا في دعم مساعي احترام حقوق الإنسان؛ فهذا الكوكب كوكبنا جميعنا، وهذه الأرض أرضنا كلّنا، فلنعمل يدًا بيدٍ حتّى نتمكّن من منح هذه القضيّة نطاقًا أوسع من الأهميّة، يتخطّى صلاحيّات بعض موظفي الأمم المتّحدة المكتسبة في هذا الشـأن.
فمن أجل تحقيق التنمية المستدامة ومعالجة قضايا تغيّر المناخ والتصدّي لها بكلّ فعاليّةٍ، لا بدّ لدول العالم من أن تحترم حقوق الإنسان.
ومن أجل وضع حدٍّ لأوجه عدم المساواة السائدة وإنهاء ظاهرة الفقر المدقع، لا بدّ لدول العالم من أن تحتضن آراء المجتمع المدنيّ وتحترم حقوق كلّ عضوٍ من أعضاء المجتمع وخياراته.
ومن أجل تعزيز مبادئ الحوكمة ومحاربة الإرهاب بكلّ فعاليّةٍ وتشكيل مجتمعاتٍ مستقرّةٍ وآمنةٍ، لا بدّ لنا جميعنا من أن نتمتّع بأسمى ظواهر العدالة المحقّقة.
ولا بدّ لنا جميعنا أيضًا من أن نعتمد منظورًا يتخطّى نطاق تركيز اليوم، ليغطّي الغد والمستقبل على حدّ سواء؛ فنحن بحاجةٍ إليكم جميعكم، أنتم وأفراد جيلكم الذي قد يشكّل واحدًا من بين أهم الأجيال التي مرّت على تاريخ البشريّة ونجحت في البقاء على قيد الحياة وسط بيئةٍ حميدةٍ.
وفي هذا السياق، لا تتّخذ انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك تلك المروّعة والمزمنة وحتّى غير الواضحة منها، طابعًا عشوائيًّا يتشكّل عن طريق الخطأ أو الصدفة أبدًا.
فدائمًا ما تأتي الانتهاكات نتيجة انتشار أوجه اللامساواة والتفاوت السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة طويلة الأمد التي من شأنها استحداث عقبات في وجه التوزيع العادل للفرص والموارد المتاحة، والحدّ من أوجه الحريّة والمشاركة.
وبالتالي، يمكننا جميعًا أن نساهم في صياغة سياساتٍ أفضل وتحقيق نتائج أفضل، ويمكننا جميعًا أن نتعاون مع بعضنا البعض سعيًا منّا لحماية أبرز مكاسب الماضي وإحراز التقدّم المنشود كي نحقّق العدالة ونصون الكرامات ونحترم مبادئ المساواة بين البشر، وبالتالي، نجد حلولًا أفضل يستفيد منها العالم بأسره.
وتذكّروا دائمًا أن الدولة المستقرّة هي الدولة التي يثق شعبها بحكومتها وببعضه البعض. ففي غياب سيادة القانون وانعدام تطبيق الإجراءات القانونيّة واحترام حقوق الإنسان، لن يعمّ الأمن والأمان بأيّ شكلٍ من الأشكال. وبعبارة أخرى، يساهم النموّ الاقتصاديّ، الذي من شأنه توليد تفاوت حادّ، في انتشار مشاعر الإحباط المزمن، وبالتالي موجاتٍ من العنف المحتمل.
لذلك، يتعيّن على دول العالم الاستعداد لحماية حقوق شعوبها، وعلى الشعوب أن تتمتّع بدورها بالقدرة على تحميل الدولة المسؤوليّة، الأمر الذي من شأنه أن يمثّل إحدى واجباتنا القانونيّة والضروريّات الأخلاقيّة التي لا بدّ من التقيّد بها، والأسلوب الوحيد لتحقيق الأمن الذي يطلّبه جيلكم لتحقيق كلّ ما تحلمون بتحقيقه من أهدافٍ وطموحاتٍ منشودة.
لن نستسلم أبدًا للانهزاميّة، ولن نقف مكتوفي الأيدي في وجه انهيار الهياكل الداعمة للسلام والأمن والتنمية السليمة.
فلا بدّ لنا جميعنا من أن نستغلّ هذه الفرصة، بحيث يتمتّع هذا الجيل من القادة العالميّين بالقدرة على ضمان رفاهيّة شعوبهم. وبالتالي، قد تتّخذ بعض الأدوات المحدّدة، كخطة التنمية المستدامة للعام 2030، طابعًا تحويليًّا، وقد تساهم المبادئ الأساسيّة في دعم الإصلاحات اللّازمة المعتمدة.
شكرًا جزيلاً لكم لحسن انتباهكم. والآن، فقد حان دورنا كي نستمع لآراءكم ووجهات نظركم الموقرة.