Skip to main content

البيانات والخطابات المفوضية السامية لحقوق الإنسان

المفوض السامي: "علينا أن نرعى حركة جديدة من أجل السلام"

21 حزيران/يونيو 2024

أدلى/ت به

مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك

في

محاضرة المجلس الأكاديمي المعني بمنظومة الأمم المتحدة السنوية إحياءً لذكرى كوفي عنان - ’استعادة الحق في السلام‘

سيدتّي الرئيسة،

أيّها الزملاء والأصدقاء الأعزاء،

أشكركم على دعوتي إلى المشاركة في هذا الحدث. ويؤسفني عدم تمكني من الانضمام إليكم حضوريًا.

إنه لشرف عظيم لي أن ألقي المحاضرة الأولى إحياءً لذكرى الأمين العام السابق عنان.

لقد ترك التزامه الثابت بمهمة الأمم المتحدة، وتفانيه في خدمة الفئات الأكثر ضعفًا، وقيادته خلال الأوقات السياسية العصيبة التي مرت بها الأمم المتحدة، انطباعًا عميقًا في نفسي.

كما أدى تقريره الأساسي المفعم بالأفكار المُعَنوَن في جو من الحرية أفسح إلى إنشاء مجلس حقوق الإنسان وتعزيز ركيزة حقوق الإنسان وإنشاء لجنة بناء السلام.

وبالتالي، حان الوقت لإلقاء هذه المحاضرة الافتتاحية باسمه ونحن على مشارف القمة من أجل المستقبل، نظرًا إلى إرثه الذي انطوي على إعادة تشكيل أولويات الأمم المتحدة وطرق عملها بغية تلبية الديناميكيات والأولويات المتغيرة في عالم يمر بلحظة انتقالية حاسمة أخرى.

نمرّ من دون أدنى شكّ بأكثر الفترات خطورة شهدتها العقود الثلاثة التي قضيتُها أنا شخصيًا في الأمم المتحدة.

فقبل أيام قليلة، اضطررتُ من جديد، إلى افتتاح تقريري بشأن آخر المستجدات العالمية أمام مجلس حقوق الإنسان بتعداد أهوال النزاعات التي تمزق عالمنا اليوم.

59 حربًا شهدها العام 2023، وفقًا لبرنامج أوبسالا لبيانات النزاعات. حيث تشير بياناتنا إلى ارتفاع حاد في عدد القتلى المدنيين مقارنة مع العام 2022.

هدر أرواح عقيم لا طائلة منه، وغير مقبول على الإطلاق.

مصحوب بالقسوة والدمار على نطاق مروّع.

نشهد جذور نظامنا العالمي تتسمم مع تدمير المعايير الأساسية.

لقد شكّل غزو الاتحاد الروسي لأوكرانيا في العام 2022، في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة، نقطة تحوّل حاسمة.

واليوم، من أوكرانيا إلى السودان مرورًا بميانمار وغزة، نشهد انتهاكات وحشية للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

كما تتسارع آلة الحرب. ويتزايد الإنفاق الدفاعي بشكل كبير مع تنصّل القوى النووية الكبرى من التزامات نزع السلاح.

أمّا الخلفية الأوسع نطاقًا فلا تبعث على الارتياح.

تتآكل سيادة القانون في مناطق العالم كافة. ولا تزال المناورات السياسية البغيضة القائمة على الانقسام والتشتت مستمرة. وتتعرّض المؤسسات المتعدّدة الأطراف لهجوم سياسي غير مسبوق، وفي حالة الأمم المتحدة، لهجوم مادي غير مسبوق. ويجري كل ذلك فيما تنحسر الجهود العالمية الرامية إلى تنفيذ خطّة عام 2030 ومعالجة أزمة كوكبنا الثلاثية الأبعاد بشكل كارثي.

إنه وضع عبثي منافٍ للعقل، وما مِن مصطلحات أخرى متوفّرة لوصفه. ومن الممكن تلخيصه ببعض الإحصاءات. ارتفع الإنفاق العالمي على الدفاع في العام 2023 إلى 2.5 تريليون دولار أميركي تقريبًا، في موازاة اتّساع الفجوة السنوية لتمويل التنمية إلى نحو 4 تريليون دولار أميركي. وقد أمسى 4.8 مليار شخص أفقر اليوم ممّا كانوا عليه قبل خمس سنوات. وأكثر من 330 مليون طفل مضطرون للعيش في فقر مدقع.

يولّد كلّ هذا الموت والدمار والخلل التشكيك في قدرة تعددية الأطراف على تحقيق النتائج والإنجازات.

وعلى الرغم من ذلك، أعتبر أنّ ذلك يشكّل أيضًا فرصة حقيقية متاحة أمام الحكومات فيما تُضطر إلى النظر في الطبيعة غير المستساغة للاستمرار في المسار الحالي.

ويشير أيّ احتساب صادق ودقيق للمصلحة الوطنية إلى اتجاه واحد، وهو إعادة ضبط الأوضاع بحزم. وتوفر القمة من أجل المستقبل فرصة بارزة أمام الدول من أجل بلوغ الغاية المنشودة.

إن ما هو معرّض للخطر، وما يجب أن نحقّقه جميعنا، هو السلام.

فإذا لم نضع حدًا لكابوس النزاع المتصاعد، لن نحرز أيّ تقدم يُذكَر في مجال التنمية وأزمة كوكبنا الثلاثية الأبعاد ولن نتمكّن من التصدّي لأي تحديات أخرى.

وبعد أن بددنا عوائد السلام التي حقّقناها بشق الأنفس، نواجه اليوم حتمية السلام.

لقد وُلد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من رحم العزم على إنقاذ العالم من دوّامات الإرهاب وسفك الدماء والجرائم الوحشية التي نهشت جوانب الحياة كافة.

والاعتراف الواضح بأن حقوق الإنسان تشكّل "أساس" السلام في العالم.

علينا أن ننخرط اليوم بشكل كامل في حقوق الإنسان خدمةً للسلام، وأن ننبذ المفهوم القائل إنّ الحقوق وصنع السلام واستدامته متعارضان بطريقة أو بأخرى.

بل هما على عكس ذلك في الواقع. فمسار حقوق الإنسان يبعدنا عن اللا منطق الذي يغذي الحرب وانعدام الأمن.

فمن وجهة نظري، وبعد أن أمضيت حياتي المهنية في التصدي للتكاليف الإنسانية والسياسية التي نتكبّدها بسبب الحرب، فإن الخيار واضح.

نحن بحاجة إلى تبني الإمكانات الكاملة لحقوق الإنسان كوسيلة لحل المشاكل من أجل إحداث تغيير نظمي. ونحن بحاجة إلى إعادة اكتشاف فن التهدئة، وإبقاء جميع قنوات الاتصال مفتوحة.

تكمن الحقوق كحلول، أي البراغماتية المتجسدة في المبدأ، في صميم بيان الرؤية الذي نشرتُه في وقت سابق من هذا العام، ويشكّل نظرة أكثر استنارة إلى رسائل مبادرة حقوق الإنسان 75 الرئيسية. وتشكّل حقوق الإنسان، باعتبارها إحدى ركائز الأمم المتحدة الثلاث، النسيج الضام للحوكمة العالمية، وهي ضرورية لتنشيط التعاون الدولي. ويكمن في أساسها الحق في السلام.

ونظرًا إلى جذورها المترسخّة في القيم العميقة المشتركة بين الثقافات والتاريخ، بإمكانها أن تتخطى الانقسامات الاجتماعية والسياسية العميقة اليوم القائمة داخل المجتمعات وفي ما بينها. وهي تحظى بدعم الأغلبية الصامتة. وكما أفاد استطلاع المواقف العامة العالمية الذي أجرته مؤسسة المجتمع المفتوح، فإن 72 في المائة من المُستطلَعَة آراؤهم اعتبروا أن حقوق الإنسان تشكّل "قوة من أجل الخير"، مع نسبة مماثلة تساوي بينها وبين قيمهم الشخصية.

كما أن الحقوق ملائمة للمستقبل ولا تسقط مع مرور الزمن، فهي وثيقة الصلة بتوجيه العمل بشأن حالة الطوارئ المناخية وبشأن تقدم التكنولوجيا الرقمية، كما ستكون وثيقة الصلة بالتحديات التي لا تزال مجهولة. ويمكننا أن نشهد ذلك جليًا في موجة التقاضي المناخي في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك النجاح الأخير الذي حقّقته مجموعة من النساء السويسريات أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والرأي الاستشاري المرتقب لمحكمة العدل الدولية.

فما هي إذًا قيمة ما تقدّمه حقوق الإنسان إلى السلام؟ ندرك تمامًا أنه في كل مرحلة من مراحل دورة النزاع، تحقّق المقاربات القائمة على حقوق الإنسان نتائج ملموسة. وقد ساهم العديد منكم في إثراء قاعدة الأدلة المتزايدة في هذا الصدد.

كما تتيح لنا حقوق الإنسان تشخيص المشكلة وتحديد الحلول. والأهم من ذلك أنها تحفّز تشكيل مجتمعات مسالمة وعادلة وقادرة على المواجهة والصمود، مجتمعات يمكن أن تتصدّي للمشاكل في وقت مبكر وبطريقة وقائية حقيقية قبل أن تستحيل عنفًا. وتشكّل هذه الرؤية جوهر الدراسة المشتركة التي أجرتها الأمم المتحدة والبنك الدولي بعنوان سبل تحقيق السلام.

اسمحوا لي أن أتوسّع في هذه الفكرة من خلال التطرق إلى خمسة جوانب.

أولاً، الإنذار المبكر. غالبًا ما يشكّل تدهور حالة حقوق الإنسان إشارة واضحة إلى أن العنف يتربص بنا. فلماذا إذًا لا تزال عمليات الإنذار المبكر تفتقر إلى تحليل حقوق الإنسان تحليلًا مُمَنهجًا؟ يجب أن يتغيّر هذا الواقع. ومن بين السبل لتحقيق هذه الغاية تحسين التواصل بين نظام حقوق الإنسان ومجلس الأمن، وكذلك لجنة بناء السلام.

نكرّس جزء كبير من عملنا في مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، لرصد حقوق الإنسان وتوثيق الانتهاكات والإبلاغ عنها، بما في ذلك القدرة المتنامية على تحليل الإنذار المبكر في مكاتبنا الإقليمية. وفيما نعمل على تشذيب مؤشراتنا وبياناتنا، بما في ذلك ما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية وأوجه عدم المساواة، يمكننا تعميق التحليل الذي نغذي به آلية الإنذار المبكر التابعة لمنظومة الأمم المتحدة بشأن الأزمات الوشيكة.

ففي باراغواي مثلًا، مكننا جمع البيانات وتحليلها بشأن عمليات الإخلاء القسري المزعومة لمجتمعات الفلاحين والسكان الأصليين من التواصل مع السلطات والمجتمعات المحلية بمجرد أن حدّدنا المخاطر المحتملة للنزاع الاجتماعي والاضطرابات.

إلاّ أنّ الإنذار المبكر يمسي زائدًا عن الحاجة إذا لم يتبعه إجراء فوري. واسمحوا لي أن أعرض مثالًا صارخًا على ذلك. لقد كانت تقاريرنا العديدة على مدى السنوات القليلة الماضية بشأن تفاقم التدهور في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمثابة جرس إنذار تم تجاهله بشكل متكرر ومأساوي.

أشجع الدول ذات النفوذ على التفكير بصدق في ثمن الفرص الكثيرة الضائعة في العديد من السياقات، وعلى تبني موقف أكثر استجابة. ويجب أن يترافق ذلك مع استثمار أكبر في المنابر والمنصات والآليات المخصصة للعمل المبكر، بما في ذلك تعزيز قدرة الأمم المتحدة على اقتراح مسارات عمل محددة الأهداف.

ثانيًا، عمليات السلام. عددها في تناقص مستمرّ حاليًا في موازاة الصد المتواصل لإدماج ولايات حقوق الإنسان وعناصرها، على الرغم من بروز أدلة واضحة على أن هذا الإدماج مفيد للجميع. لقد شكّلت ثلاثة عقود من إدماج حقوق الإنسان تمرينًا بطريقة أو بأخرى على إمكانات غير مستغلة. وكما تشير الدراسة الأخيرة لشبكة فعالية عمليات السلام إلى أن حقوق الإنسان قد تشكّل عامل تمكين قوي لبلوغ أهداف هذه البعثات، بما يتجاوز حماية المدنيين والإنذار المبكر وصولًا إلى الانخراط في العوامل التي تسببت في اندلاع العنف في المقام الأول.

هناك فرصة متاحة أمام الدول في هذا الصدد. وبإمكان ولايات أوضح وأكثر واقعية ومزودة بالموارد الكافية من مجلس الأمن، على النحو الذي دعت إليه خطة الأمين العام الجديدة للسلام، أن تضمن إحداث تأثير أكبر لعناصر حقوق الإنسان في هذه العمليات المعقدة. وفي حال اختيار عمليات سلام أصغر حجمًا وأكثر مرونة، فإن القدرة السليمة التصميم في مجال حقوق الإنسان قد تساهم في تحقيق المزيد بموارد أقل.

كما يمكن لتحليل حقوق الإنسان أن يدعم عمليات انتقال أكثر سلاسة عند انتهاء عمليات السلام من خلال خطة محكمة تضمن الاستمرار في حماية حقوق الإنسان. ما يتطلّب وجودًا مستمرًا ومزودًا بالموارد اللازمة في مجال حقوق الإنسان. كما أنه يوضح أيضًا فوائد تجهيز عنصر حقوق الإنسان منذ البداية للانخراط في الأسباب الجذرية.

يقع مفهوم استمرارية الحماية هذا في صميم جدول أعمال الحماية الذي أطلقته أنا والأمين العام في وقت سابق من هذا العام. ويوضح جدول الأعمال كيف سنضمن، عبر منظومة الأمم المتحدة، ممارسة ولاياتنا وقدراتنا بطريقة تضع الحماية كأولوية في جميع أعمالنا، في حالات الأزمات وما بعدها.

ثالثًا، صنع السلام. اسمحوا لي أن أبدد الاعتقاد الخاطئ بأن نهج حقوق الإنسان لا يتوافق مع البراغماتية والمساومات الصعبة اللازمة لإنهاء النزاع.

إذا لم نرسّخ اتفاق السلام في حقوق الإنسان، فإننا نحمّله بكلّ بساطة عيبًا قاتلًا يؤدي إلى تفككه مع عودة المشاكل ذاتها التي شكّلت أصلًا سببًا في نشوب النزاع. وقد تمّ إدراك هذه الحقيقة بوضوح في سلسلة اتفاقات السلام المُبرَمَة خلال تسعينات القرن الماضي، من دايتون إلى غواتيمالا وكمبوديا. وفي الواقع، أسفرت عملية كمبوديا عن إنشاء مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في البلاد.

فلننتقل إلى كولومبيا حيث ساهمت مشاركتنا في المفاوضات في ترسيخ اتفاقات عام 2016 في حقوق الإنسان، مع الاهتمام بالقضايا التي طال أمدها، مثل التمييز والعنف ضد المرأة والشعوب الأصلية والمنحدرين من أصل أفريقي.

وفي نهاية المطاف، فإن نهج حقوق الإنسان يمنحنا مخططًا لإعادة بناء مجتمع متصدع، ونسجه حول سيادة القانون والمساواة والإدماج والحياة بكرامة والمؤسسات الخاضعة للمساءلة. لدينا الأدوات اللازمة من أجل إنشاء وتمكين المؤسسات الضرورية لتحقيق التقدم في مجال الحقوق.

ولدينا الركائز المطلوبة لعمليات العدالة الانتقالية بغية تجاوز الإرث المؤلم لانتهاكات حقوق الإنسان بشكل بنّاء. لا لأن حقوق الإنسان رجعية في جوهرها وتركز على اللوم، كما يميل البعض إلى الاعتقاد. بل على العكس تمامًا إذ يمكن لحقوق الإنسان أن توفر أداة تطلعية تيسّر التصالح مع الماضي بما يسمح للضحايا، إلى جانب المجتمع ككل، بالمضي قدمًا.

من الضروري للغاية أن نواصل العمل على كسر التقوقع بين مجالي السلام وحقوق الإنسان. فالفوائد تتراكم منذ انطلاقة أي عملية سلام، حيث بإمكان الجهات الفاعلة الحاضرة منذ فترة طويلة وتتمتّع بتشبيك فعّال، على غرار مفوضيتنا، أن تساهم في بناء الثقة. وتشجع الخطابات القائمة على حقوق الإنسان على المشاركة، وتقوم مقام ترياق يقي شرّ العقلية الثنائية القائلة إنّ "الفائز يستثئر بالغنائم كافة". وبدلاً من ذلك، تشجّع على الاستفادة من الآمال المشتركة والرؤية المشتركة لمستقبل تُحترم فيه حقوق الجميع. بإمكان الأنشطة الجارية في مجال حقوق الإنسان أن تبني الثقة في ما سيحققه اتفاق السلام، إن كان متجذرًا بما فيه الكفاية في الحقوق، لجميع الفئات.

كما أنّ الشمولية، وهي أمر بالغ الأهمية لشرعية اتفاق السلام ومتانته، هي جزء لا يتجزأ من نهج حقوق الإنسان. ففي كولومبيا مثلًا، ضمنت مشاركتنا إدماج أصوات الضحايا بما في ذلك النساء. وتُعتَبَر ليبيريا مثالاً آخر شكّلت فيه مشاركة المرأة عاملاً تحويليًا.

بإمكان إطار حقوق الإنسان أن يسهل مهمة الوسيط من خلال وضع جدول أعمال تفاوضي مقبول من جميع الأطراف يغطّي القضايا الأساسية. كما أن اعتماد إطار حقوق الإنسان يفتح المجال أمام تقديم التنازلات، وإعادة صياغتها كخطوات إيجابية نحو مبدأ عالمي بدلاً من الاستسلام الضعيف. ويبرز العديد من الأفكار المعمّقة والعملية حول حقوق الإنسان والوساطة في مذكرة الممارسة المشتركة مع إدارة الشؤون السياسية وبناء السلام. وأحث جميع الجهات الفاعلة المعنية على الاستفادة من هذه الدروس القيمة.

رابعًا، بناء السلام. من المرجح أن يحقّق هذا الجانب نجاحًا أكبر عندما يشكّل اتفاق سلام حازم مترسّخ في حقوق الإنسان نقطة البداية. ومن الأمثلة على ذلك كولومبيا حيث يمنحنا اتفاق عام 2016 دورًا في رصد تنفيذ جوانب الاتفاق المتعلقة بحقوق الإنسان، ما يسمح لنا بالإبلاغ المبكر عن المظالم التي قد تعرقل التقدم في هذا المجال. كما أننا قادرون أيضًا على جلب عدسة حقوق الإنسان إلى عناصر رئيسية أخرى من الاتفاق، منها على سبيل المثال لا الحصر إصلاح قطاع الأمن، والسياسات الجديدة المتعلقة بالمخدرات، ومعالجة عدم المساواة في الحصول على الأراضي وما إلى ذلك.

كما يوضح السياق الكولومبي أيضًا الترابط المعقد بين حقوق الإنسان كافة. وقد لاحظ الاستعراض المواضيعي الأخير لصندوق بناء السلام كيف أدت المبادرات التي ركّزت على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى تحسين تمتع النساء والفئات المحرومة الأخرى بالحقوق المدنية والسياسية.

اسمحوا لي أن أعرض توضيحًا موجزًا عن العدالة الانتقالية. بشأن نيبال، التي يدرك الدكتور كيهارا-هنت مسيرتها تمامًا. تدعم مفوضيتنا عملية مسح انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، سواء كسبب جذري للنزاع المسلح الذي استمر عقدًا من الزمن أو كعواقبه. ويغذّي هذا التحليل عملية العدالة الانتقالية الجارية في نيبال ويعززها.

إلاّ أنّ العدالة الانتقالية لا تزال على الصعيد العالمي أداة يُساء فهمها ولا يتم استخدامها بشكل كافٍ. وآمل أن تؤدي التوصيات الواردة في مذكرة الأمين العام التوجيهية لعام 2023 إلى إحداث التحول المطلوب بشدة في وجهات النظر والممارسة.

وأخيرًا، ولربما الأهم من ذلك كله، معالجة الأسباب الجذرية. ندرك تمامًا أنّ المظالم والإقصاء وعدم المساواة التي لم تتم معالجتها هي الأسباب الكامنة وراء النزاعات. ويوفّر الاستثمار في حقوق الإنسان، بمبادئها الأساسية المتمثلة في عدم التمييز والمشاركة الهادفة والمساءلة، بما في ذلك الحكومة المستجيبة والخاضعة للمساءلة، نهجًا شاملاً لمواجهة هذه الدوافع.

ويجب أن يغطّي هذا الاستثمار جميع الحقوق، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والحقوق المدنية والسياسية، والحق في بيئة صحية، والحق في التنمية، بما في ذلك تضافر الجهود لمواجهة أوجه عدم المساواة بجميع أنواعها.

وقد تأكّدتُ من ذلك مرارًا وتكرارًا خلال بعثاتي القطرية. ففي المنطقة الشرقية من جمهورية الكونغو الديمقراطية مثلًا، حيث لا يزال التنافس على الموارد المعدنية الثمينة يؤجج إراقة الدماء الكارثية.

لأنه في نهاية المطاف، تكمن القوة الوقائية الحقيقية لحقوق الإنسان في تفاعلها مع بعضها البعض كنظام موحّد، وفي تمكين الناس من صياغة حلول للمشاكل التي تواجههم. فالإدماج والمشاركة هما أساس المجتمعات المسالمة القادرة على المواجهة والصمود. ما يستلزم بذل جهود متواصلة بغية تعزيز جميع ركائز المجتمع المفتوح، انطلاقًا من الديمقراطية مرورًا بالحيّز المدني وصولًا إلى سيادة القانون ووسائل الإعلام المستقلة.

كما يتطلب أيضًا إعادة النظر في كيفية عمل اقتصاداتنا. نشهد مرارًا وتكرارًا كيف أنّ الإقصاء من الفرص الاقتصادية، مقرونًا بالعجز عن تغيير هذا الواقع، قد أدى إلى احتضان الظروف السامة التي تنفجر انعدام أمن وعنف.

ويجب تحقيق تحوّل جوهري حتى تبدأ اقتصاداتنا في العمل من أجل الناس والكوكب، بدلاً من خدمة قلة محظوظة. إن مفهومنا للاقتصاد القائم على حقوق الإنسان ينفّذ ذلك بالضبط، حيث يرسّخ جميع القرارات الاقتصادية والمالية والنقدية والتجارية والاستثمارية في مجموعة كاملة من الحقوق، بما في ذلك الحقوق في الغذاء والصحة والتعليم.

ما يعني:

  • تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للاتفاق على مقاييس أوسع نطاقًا يمكن أن تلقي الضوء على الاتجاهات في الرفاه وعدم المساواة؛
  • تحسين جمع البيانات وتصنيفها من أجل النهوض بالإجراءات المحدّدة الهدف الرامية إلى مناهضة التمييز؛
  • عمليات إعداد الميزانية التي تتسم بالشمولية والتشاركية والشفافية؛
  • منح الأولوية إلى الخدمات العامة بحيث تتاح أمامها فرصة الاستفادة من التمويل الذي تحتاج إليه، والوفاء بالتزام الدول باستخدام أقصى قدر ممكن من الموارد المتاحة لإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكل تدريجي.

كما يدعو الاقتصاد القائم على حقوق الإنسان القطاع الخاص إلى الاضطلاع بدوره، من خلال مواءمة نماذج الأعمال التجارية وعملياتها مع مسؤولياتها في مجال حقوق الإنسان.

وقد يؤدي اعتماد نهج الاقتصاد القائم على حقوق الإنسان على المستوى الوطني إلى إحداث تحول في آفاق خطّة عام 2030 والسلام على حد سواء. ونحن بحاجة إلى أن نلمس، في موازاة ذلك، تهيئة بيئة عالمية مؤاتية.

وذلك من خلال:

  • إصلاحات طال انتظارها في كل من عمليات المؤسسات المالية الدولية وحوكمتها، مع الترحيب الشديد بإعلان صندوق النقد الدولي الأخير بشأن حقوق السحب الخاصة؛
  • آلية عادلة وفعالة لتسوية الديون السيادية بهدف إعفاء الحكومات من أعباء الديون التي تكاد تشلّها وتقيد الاستثمار في الخدمات العامة؛
  • تعاون أوثق في مجال الضرائب والفساد والتدفقات المالية غير المشروعة، بما في ذلك من خلال اتفاقية إطارية جديدة بشأن التعاون الضريبي الدولي.

إن الحوافز اللازمة لإعادة تنشيط الجهود المبذولة في مجال الوقاية كبيرة بالفعل وتتضاعف. وما علينا سوى أن نستشرف المستقبل قليلاً كي ندرك كيف أن الآثار المتفاقمة لأزمة كوكبنا الثلاثية الأبعاد ستؤدي إلى تآكل الأمن في كل مكان. حان الوقت لإنقاذ رؤية كوفي عنان حول "قرن منع الانتهاكات".

أيّها الزملاء والأصدقاء الأعزّاء،

سواء كان الأمر يتعلق بالسلام أم بالتنمية أم بأي أولوية عالمية أخرى، فإن اللحظة المناسبة للدول من أجل إعادة ضبط واضحة قد حلّت الآن، ومن أجل الخروج من الفخ الذي نصبه التفكير القصير الأجل والإنكار والمواجهة والتصعيد. ومن أجل السعي وراء تحقيق المكاسب التي تنبع من الاستثمار الحاسم في حقوق الإنسان.

هذا ليس من الأوهام ولا من الأحلام. فالطلبات الواردة من الحكومات إلى مفوضيّتنا للحصول على الدعم تتزايد يوميًا. لماذا؟ لأنّ تحقيق تطلعات الناس واحتياجاتهم، ومعالجة المشاكل الأكثر صعوبة في المستقبل، لا يمكن بلوغها أبدًا إذا لم نحرز تقدمًا حقيقيًا في مجال النهوض بالحقوق.

خلال فعاليات مبادرة حقوق الإنسان 75، قدَمَتْ أكثر من 140 دولة تعهدات باتخاذ إجراءات تحويلية بشأن قضايا محددة في مجال حقوق الإنسان، ما يمثل دفعة أولى للعمل الضروري الذي ينتظرنا إذا أردنا تجنب التعامل مع مشاكل الغد بعقلية الأمس.

وبعيدًا عن العناوين الرئيسية، لا يزال التقدم اليومي في مجال حقوق الإنسان يتحقق، حتى في هذه الأوقات العصيبة، مدفوعًا في الكثير من الأحيان بشجاعة المدافعين عن حقوق الإنسان وتضحياتهم.

وكي نتمكّن كمجتمع عالمي من تخطّي هذه المرحلة الحرجة، يجب تطبيق الدروس التي تعلمناها بشأن النهج الفعالة القائمة على حقوق الإنسان في مجال السلام، كما هي الحال في المجالات الحيوية الأخرى، بشكل متسق وعلى نطاق واسع. ما يتطلب حيزًا سياسيًا وموارد مستدامة.

يشكّل مؤتمر القمة من أجل المستقبل فرصة لمعالجة النقص المزمن في تمويل العمل في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، بما في ذلك عمل مفوضيتنا السامية والنظام الدولي لحقوق الإنسان الأوسع نطاقًا.

لدينا حركة عالمية قوية من أجل حقوق الإنسان، مدفوعة باحتياجات الأفراد والمجتمعات. وتكمن قوتها المتجددة في تنوعها المتزايد، حيث تجمع بين منظمات المجتمع المدني من جميع الأنواع، والنشطاء الشباب وخبراء الاقتصاد والبيئة والتكنولوجيا وصناع السياسات، وغيرهم من الجهات الفاعلة الأخرى العديدة.

مع أخذ ذلك في الاعتبار، لدي طلبان نوجّههما إلى مجتمع البحوث.

أولاً، المساعدة في كشف المزيد من آثار النهج القائمة على حقوق الإنسان في صنع السلام وبنائه.

ثانيًا، التعاون على الأدوات والأساليب والأدلة التي يمكن أن نقدمها إلى الدول بغية مساعدتها على تبني اقتصاد قائم على حقوق الإنسان.

وفي نهاية المطاف، فإن بناء مجتمعات مزدهرة وعادلة وشاملة للجميع ومسالمة ومستدامة هو عمل عدد لا يحصى من الجهات الفاعلة التي يجب أن تُقدَّر تجاربها وخبراتها ورؤاها. فما مِن جهة واحدة تملك الإجابات كافة. ويجب أن نتعلم من بعضنا البعض.

لقد رأينا إلى أين أوصلتنا ازدواجية المعايير وتفضيل أصوات محدّدة في ما يتعلّق بحقوق الإنسان، ضمن نظام الحوكمة العالمية بأكمله. وفيما نعمل على إعادة تنشيط التعاون الدولي، علينا أن نرعى ونعزّز حركة جديدة من أجل السلام. وستجد في حركة حقوق الإنسان، حليفًا ملتزمًا.

وشكرًا.

الصفحة متوفرة باللغة: