البيانات المفوضية السامية لحقوق الإنسان
"هذا ما هو عليه القائد الحقيقيّ" – رسالة وداع المفوّض الساميّ زيد
رسالة وداع المفوّض الساميّ زيد
30 آب/أغسطس 2018
في 30 آب/ أغسطس 2018
أشتهر ونستون تشرشل بإعلانه أنّ الشجاعة من بين الصفات كافة تبقى الأكثر قيمة، لأنّها تضمن كلّ الصفات الأخرى. وقد كان على حقّ. فالشجاعة – الشجاعة الأخلاقيّة – هي الرفيق الدائم للقيادة العظمى. ولا يمكن اعتبار أيّ سياسيّ متميّز ما لم يمتلك الشجاعة في قلبه. وما كان مِن تقدم اجتماعيّ ممكن تاريخيًّا لولا أفراد محدّدين عارضوا القطيع وخرجوا عنه بسبب شكّ وخوف زرعهما في قلبهم.
في أفضل الأحوال، تتجسّد الشجاعة في التضحية بالذات، وفي اللاعنف والتواضع وهي مبنيّة على المبادئ العالميّة وتتمتّع بقوّة عظمى. فلنتذكّر المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ. إلاّ أنّ الشجاعة نادرة: فلنتذكّر مرّة جديدة غاندي ومارتن لوثر كينغ. والشجاعة خطيرة: فقد تمّ اغتيال الرجلَيْن.
لنلقِ نظرة على سياسيّي اليوم. ولننظر أوّلاً إلى من يستحوذ على انتباه وسائل الإعلام: آل ترامب، وأوربنز، وسالفيني. همّهم الوحيد أن يُعتَبروا القادة الأقوياء لبلادهم؛ وهم حريصون على تحسين صورتهم من خلال إيذاء المهاجرين واللاجئين الأكثر ضعفًا في المجتمع. أين الشجاعة في ذلك؟ فالقادة المستبدّون، أو المنتخبون المتحوّلون إلى طغاة، إنّما ليسوا إلّا من المتنمّرين والمخادعين والجبناء الأنانيّين.
ويعود سبب تزايد أعداد هذا النوع من القادة إلى أنّ العديد من القادة الآخرين (مع بعض الاستثناءات طبعًا) دون المستوى. فهم أيضًا يركّزون على صورتهم، والتفاهات المتعلّقة بالبروتوكول وإعادة الانتخاب. نرجسيّون أو خائفون من التصدّي للغوغائيّين وغيرهم، ويبدو أنّهم يَحْتَمون بالصمت وإعادة خلط الأوراق. ولا ينبس البعض منهم ببنت شفة إلاّ بعدما يغادر مناصبه، مكتشفًا شجاعته بعد فوات الأوان. يتتالون من دون انقطاع؛ وبالكاد تتمّ ملاحظة ذلك.
ونتيجة لذلك، يتحوّل معظم القمم والمؤتمرات التي تعقدها الدول إلى معاناة تفتقر إلى العمق ولكن تجتاحها العبارات المبتذلة والنمطيّة التي لا معنى لها. وما ينقصها فعلاً هو الإرادة الحقيقيّة للعمل معًا، على الرغم من أنّ الجميع سيدّعي – مجدّدًا تحت الأضواء وأمام عدسات الكاميرات – أنّه ملتزم بالكامل بالتعاون. لكنّ الأنظمة التي تسمح للدول بأن تعمل جماعيًّا على أرفع المستويات سعيًا منها لإيجاد حلول تتفكّك وتتلاشى. فعلامات ذلك تتفشّى أينما نظرنا.
التكفيريّة مثلاً – هذه الإيديولوجيا المترسّخة في القاعدة، وجبهة النصرة (وهي فرع من القاعدة أصبح يُعرَف اليوم بهيئة تحرير الشام)، وبوكو حرام، وحركة الشباب، وتنظيم الدولة الإسلاميّة الإرهابيّ وغيرها – لم تختفِ عن وجه الأرض على الرغم من آلاف الهجمات بطائرات من دون طيّار وعمليّات القصف التي استهدفت هذه المجموعات كلّه. ألا يعني هذا الواقع شيئًا؟ كيف يمكن لهذه المجموعات أن تستمرّ؟ بالطبع هي تغيّر اسمها بين الحين والآخر ولكنها لا تزال قادرة على اجتياح العديد من البلدان ومطاردة شعوبها العقد تلو الآخر: لمَ لا تزال هذه المجموعات البغيضة والشرسة تشكّل تهديدًا لنا؟
"معظم القمم والمؤتمرات التي تعقدها الدول بمثابة معاناة تفتقر إلى العمق ولكن تجتاحها العبارات المبتذلة والنمطيّة "
يبيّن هذا الواقع أنّنا فشلنا في مواجهة عنصر أساسي من القضية. كان يجدر التفكير في التكفيريّة منذ زمن بعيد من منظور إيديولوجيّ، بإصرار من المجتمع الدوليّ. ولكن لم نقم بذلك. فالمجتمع الدوليّ عانى، في العديد من الأحيان، ضعفًا أعاقه بسبب قيادة العديد من السياسيّين العاجزين. فصار أضعف من أن يفضّل حياة البشر، والكرامة الإنسانيّة والتسامح – وفي نهاية المطاف الأمن العالميّ – على أسعار المحروقات وإبرام عقود خاصة بالدفاع. لا بلّ ركّز ردّ العالم على الجنود: على التصنيف، والتفتيش في المطارات وقوانين الطوارئ، ما أدّى إلى وصم مجموعة واسعة من الناس. ولا يزال التكفيريّون يسرحون ويمرحون.
في أوروبّا، تنطلق حملات جديدة ضدّ النقاب والحجاب، وعدم مصافحة المرأة الرجل، يؤجّجها اليمين الغاضب الحانق. وفي مقابل ذلك، من المرجّح ألاّ تُطلَق أيّ حملة ضدّ بيع الأسلحة إلى من يحفّز التعصّب في الإسلام أو ضدّ تقديم خدمات مصرفيّة له. وسيمسي الوضع أكثر خطورة بعد. وفي الواقع، يمكن تبعات ذلك أن تدمّر أوروبّا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
نعتبر أنّ المسألة مسألة وقت ليس إلاّ، قبل أن نشهد مواجهة بين التكفيريّين والبوذييّن المتطرّفين في آسيا. ويمكن منذ اليوم أن نرجّح أين ستقع المواجهة على المستوى الجغرافيّ ومن هي الأطراف المتورّطة. وتبقي كيفيّة التنفيذ وزمانه كالعادة غير محدّدَيْن بعد. فهما وقف على نتائج الانتخابات الإقليميّة وكيف سينتهي الوضع في كوكس بازار وميانمار. العلامات الحاليّة غير مشجّعة. وما هو جلّي هو أنّ الأنظمة القادرة على تصحيح الوضع مُدمّرة.
عندما تُنزِل ميانمار معاناة مروّعة بالروهنغيا – فتحرقهم داخل منازلهم، وتغتصبهم وترهّبهم، وتذبح أطفالهم، وتشرّد 700,000 شخص منهم وترسلهم إلى بنغلادش في غضون ثلاثة أسابيع – ولا تُعاقَب الحكومة على ممارساتها هذه بأيّ شكل من الأشكال – ما هي الرسالة التي ننقلها إلى الجناة؟ أو إلى الضحايا؟ أو إلى أيّ من الجناة الآخرين المحتملين حول العالم؟ ويدعم شي جين بينغ علنًا حكومة ميانمار، أمّا الرئيس ترامب، وعلى غير عادة الولايات المتّحدة نظرًا إلى الفظائع المروّعة المرتكَبَة، فلم يتطرّق حتّى إلى الوضع في راخين عندما تحدّث أمام جمعيّة الأمم المتّحدة العامة في أيلول/ سبتمبر 2017. وتشير براهين قاطعة إلى أنّ الجيش البورمي وغيره ارتكب إبادة جماعيّة. أيّ مدى من الوحشيّة يمكن البشريّة أن تبلغ بعد، وأيّ فوضة وألم ننزل بالبشريّة؟
لقد فقد الكثير ثقتهم في القانون الدوليّ وفي الهيكليّة الأمنيّة. ويمكننا أن نفهم تمامًا سبب الكامن وراء ذلك، فاحتلال إسرائيل فلسطين مثلاً، المستمرّ منذ 51 عامًا، يبدو أنّ لا نهاية له، والعديد من الفلسطينيّين يشكّكون في القانون الدوليّ، والقانون الدوليّ لحقوق الإنسان والمؤسّسات التي تمّ إنشاؤها للدفاع عن هذه الحقوق. والأمر سيّان بالنسبة إلى سكّان الصحراء الغربيّة.
أن تحتلّ روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن، شبه جزيرة القرم، بما ينتهك القانون الدوليّ، يعكس جهارًا مواقف القوى العظمى. وعندما يتعرّض المدنيّون والمرافق الصحيّة في سوريا إلى القصف يوميًّا، ويعاني شعب سوريا التعذيب والتجويع سنة تلو الأخرى مدّة سبع سنوات، هل من قانون على الإطلاق؟ والأمر سيّان بالنسبة إلى اليمن. وليبيا، وجمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة، وجنوب السودان، وأفغانستان، وجمهوريّة إفريقيا الوسطى، وماليّ، والصومال، وبوروندي، وكاميرون، وفنزويلا، ونيكارغوا.
ما هي العبر التي يمكن استخلاصها؟ لقد اجتاح موسوليني إثيوبيا في العام 1935 ولم تحرّك عصبة الأمم ساكنًا، أو لم يكن في يدها حيلة لتمنع ذلك أو تعكسه – فلحظ الدكتاتور القابع في ألمانيا النازيّة سكونها هذا.
من يتربّص اليوم لاحظًا ما يجري؟
هل سنشهد توسّع مواجهة بين إسرائيل وحماس سريعًا فتصبح تصفية حسابات بين إيران والتحالف الفضفاض بين إسرائيل والولايات المتّحدة ومجموعة من الدول العربيّة بقيادة المملكة العربيّة السعوديّة؟ قد يحصل ذلك فعلاً. ويمكن التنبّؤ بتسلسل الأحداث: صاروخ يضرب بيتًا في شمال إسرائيل، يليه ردّ قاسٍ من الجانب الإسرائيليّ، ما يولّد أحداثًا تحاكي أحداث العام 2014 – إلاّ أنّها تتوسّع هذه المرّة بسرعة البرق.
وفي ظلّ بؤر الانقسام المتفشّية أصلاً – نتيجة التدهور في القيادة المستمرّ منذ عقود طويلة - كلّ ما يلزم هو مجرّد شرارة. ومن أجل القضاء على هذه الانقسامات، إن في الشرق الأوسط أم في أي مكان آخر، علينا أن نفكّر بطريقة مختلفة، أن نفكّر أكثر في حقوق الإنسان، وبصورة طارئة.
يُترجَم الانقسام ضمن المجتمع معاناةً إنسانية أو مظالم حادة. وقبل اندلاع أيّ صراع، تنبع المعاناة من ثلاثة أنواع من انتهاكات حقوق الإنسان. الأوّل هو الحرمان من الحريّات الأساسيّة، على غرار حريّات الرأي والتعبير والتجمّع السلمي، وإرساء وضع يمسي فيه البقاء على قيد الحياة والخوف من الدولة وجهَيْن لعملة واحدة. والثانيّ هو الحرمان من الخدمات الأساسيّة، على غرار الحمايات القانونيّة والاجتماعيّة أو الحقّ في التعلّم والرعاية الصحيّة، وغالبًا ما يؤكّد هذا النوع سيطرة نخبة سياسيّة على غيرها. أمّا الثالث فيغذّي الاثنين الأوّلَين، وهو التمييز الهيكليّ والعميق المبنيّ على العنصريّة والشوفينيّة وكره النساء.
"في ظلّ بؤر الانقسام المتفشّية أصلاً – نتيجة التدهور في القيادة المستمرّ منذ عقود طويلة - كلّ ما يلزم هو مجرّد شرارة."
إنّ المعاناة التي يتسبّب بها القادة الضعفاء الذين يخدمون مصالحهم الشخصيّة في سياق هذه المحاور الثلاثة إنّما فظيعة ومتفشيّة في العالم كلّه.
فعددُ الأشخاص الذين يعانون التمييز والحرمان والتخويف، والمستبعدين عن الخدمات والحماية الحكوميّة باعتبارهم أقّل استحقاقًا، على أساس الدين أو العرق، أو الإثنيّة، أو لون البشرة، أو النوع الاجتماعيّ، أو الميول الجنسيّ أو غير ذلك، الصادم ولكنّ البارز بالنسبة إلى كلّ من يعمل في مجال حقوق الإنسان، صارخٌ. وليس من المستغرَب أبدًا أنّ الأغلبيّة الساحقة لهذه المجموعة هي ممن يعاني الفقر المدقع.
ففي غواتيمالا، وهو من البلدان المتوسّطة الدخل، 47 في المائة من الأطفال ما دون الخمس سنوات من العمر – أيّ نصف هذه المجموعة العمريّة! - يعاني نقصًا حادًّا في التغذية. في بلد متوسّط الدخل! وجميعهم تقريبًا من مجتمعات السكّان الأصليّين. هذا ما هو عليه التمييز والحرمان.
في كولومبيا، وهو بلد يستعيد نشاطه بعدما مزّقته حرب مدنيّة طويلة ووحشيّة، أبحرتُ على نهر أتراتو وشهدتُ مجموعات مسلّحة لا تزال تحارب الدولة، وتنقّب عن الذهب بطريقة غير شرعيّة على ضفاف النهر فترمي كميّات هائلة من أكسيد النيتروز والزئبق في مياهه. وقد انتشرت مجتمعات كولومبيّة من أصل إفريقي على طول النهر، وسبح أطفال في المزيج السام – وجميعهم من الفقراء جدًّا. وما يزيد الصدمة شدّة، هو أنّ قوّات الأمن المحليّة لم تحرّك ساكنًا لمنع ما يجري، بل تحدّثت جهارًا عن ارتباط التمييز بالفساد المحليّ وتفشّيهما كالوباء.
في إيلوبنغو، في السلفادور، التقيتُ أربع فتيات أصدرت ضدّهنّ محاكم لم تحترم أبدًا المعايير الدوليّة، أحكامًا بالسجن ثلاث عشرة سنة لإنهائهنّ حملهنّ. فحظر الإجهاض مطلق في السلفادور. وأصرّت الفتيات – بدعم من مراقبين – على أنّهنّ عانين حالات طارئة بسبب الحمل. ولكن بدلاً من مرافقتهنّ إلى المستشفى بسبب نزفهنّ وفقدانهنّ السائل الأمنيونيّ، تمّ تكبيلهنّ واصطحابهنّ إلى السجن. بكيتُ معهنّ بكلّ جوارحي، وأنا عاجز عن تحمّل وحشيّة الوضع. وتخطّى عدد الفتيات اللواتي عانَيْن هذه الحالة الخمس عشرة فتاة، وجميعهنّ من الفقراء، والعديد منهنّ أميّات – ولا علاقة تجمعهنّ بأيّ من الأسر البارزة. ويثقل القانون الصارم الذي تدعمه الطبقة السياسيّة كاهل الفقر؛ ولا مرّة كاهل واضعيه المتميّزين. أليس هذا ضرب من ضروب الخبث الخالص؟
ولفتني أيضًا عجز من يعاني في جفنا في سريلانكا، حيث انتزع الجيش الأراضي من مجتمعات التاميل منذ عقود عدّة، وهي لاتزال تعيش في الظروف صعبة ومزرية. وحتّى بعدما التزمت الحكومة ردّ الأراضي رفض الجيش الامتثال، وبالتاليّ لا يزال الأبرياء والمشرّدون يعانون بشدّة.
وشهدتُ ظروفًا مماثلة في ليبيا عندما زرتُ مخيّمًا يستقبل مجتمع الطوارق المشرّدين. فانعدام الأمن حول طرابلس، لا سيّما ليلاً، وشيوع الخطف وإطلاق النار، وضعهم في ظروف هشّة (على الرغم من أنّ الأمر سيّان في كافة البلدان التي زرتُها حيث يسود نزاع محلّي مسلّح، على غرار جمهوريّة إفريقيا الوسطى، وبوروندي، وجمهوريّة كونغو الديمقراطيّة). فمن يعاني التمييز والحرمان من الخدمات الأساسيّة ليس مضطرًا على الجهاد في حياته اليوميّة فحسب – لأنّها تحمل ما يكفيه من المآسي ليرزح تحت حملها – بل عليه أيضًا أن يعيش في ظلّ التهديد بالعنف المفرط.
"بدلاً من مرافقتهنّ إلى المستشفى بسبب نزفهنّ وفقدانهنّ السائل الأمنيونيّ، تمّ تكبيلهنّ واصطحابهنّ إلى السجن.".
وتعكس المعاناة التي شهدتُها عن كثب أو نقلها الضحايا إليّ بكلّ جوارحهم تقصيرًا هائلاً في واجب الخدمة الذي يقع على كاهل من يمارس السيادة باسم شعبه. ففي أربعة أقطار العالم، في النصفَين الشماليّ والجنوبيّ من الكرة الأرضيّة، يحكم سياسيّون لا يخدمون إلاّ مصالحهم الشخصيّة، أو أنّهم حقودون لدرجة تمنعهم عن الاهتمام بأكثر الأفراد ضعفًا وحمايتهم. هم ليسوا بجبناء فحسب بل أيضًا غاية في الغباء، لأنّهم من خلال زرع بؤر الانقسام هذه، لا يضعون في الخطر مستقبلهم فحسب بل أيضًا مستقبل جميع البشر.
في حال لم نغيّر هذا التوجّه سريعًا، سنواجه من دون أدنى شكّ حادثًا يولّد شرارة تنتج سلسلة من الأحداث لا يمكن توقيفها تؤدّي إلى نهاية عالمنا على هذا الكوكب الصغير.
هل يمكننا أن ننحرف في الوقت المناسب عن هذا المسار؟
يكمن أملي في مجموعة من الأشخاص غير معروفين تمامًا على المستوى العالميّ ولكنّهم ذائعو الصيت في أوساط حقوق الإنسان. وعلى عكس من يروّج لنفسه – على غرار المنتخبين المشعوذين والذين يكرهون الأجانب – يتمتّع هؤلاء الأشخاص بالشجاعة. لا سلطة حكوميّة لديهم يحتمون خلفها، لا بل يمضون قدمًا. هم قادة المجتمعات والحركات الاجتماعيّة، الكبيرة منها والصغيرة، وهم مستعدّون للتضحية بكلّ شيء – حتّى التضحية بحياتهم – دفاعًا عن حقوق الإنسان. بسالتهم راسخة، أصيلة، بعيدة كلّ البعد عن الأنانية. هم يجسّدون أفضل صورة عنّا. وقد شرّفني التعرّف شخصيًّا على البعض منهم، في حين أنّ البعض الآخر معروف في المفوّضيّة.
"تعكس المعاناة تقصيرًا هائلاً في واجب الخدمة الذي يقع على كاهل من يمارس السيادة باسم شعبه. "
هذا ما هو عليه القائد الحقيقيّ. بيرتا زونيغا كاسيريس من هندوراس، وبيرتا كاسيريس، الابنة الصغرى لهذه الناشطة البيئيّة التي تمّ اغتالها، وقد واصلت بكلّ شجاعة نضال والدتها. والدكتورة سيما سمر في أفغانستان، التي تقود اللجنة المستقلّة لحقوق الإنسان في بلادها، وهي لا تعرف الخوف حتى عند تهديد حياتها الشخصيّة. والأمر سيّان بالنسبة إلى السيناتور ليلى دو ليما من الفليبين، وقد سجنَت تعسّفًا من دون محاكمة منذ 18 شهرًا. وبيير كلافر مبونمبا من بوروندي، رجل المبادئ هذا الطيّب، لم يكلّ عن النضال حتّى بعد اغتيال ابنه ونجاته شخصيًا من هجمات متكرّرة.
لقد طبعت كرامة دنيس موكويج من جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة وشجاعته تأثيرًا عميقًا في قلبي، وهو إنسان استثنائيّ بكلّ ما للكلمة من معنى. كما اعتراني التواضع أمام عزم أنغخانا نيلاباجيت من تايلاند، التي اختفى زوجها المحامي في العام 2004، تاركها وحيدة فأصبحت أكثر الناشطين شجاعة، وكافحت ضدّ الاختفاء القسريّ.
والشجعان يملؤون أقطار العالم، البحرَيْن مثلاً: عائلة خواجة، ونبيل رجب، وميثم السلمان وابتسام الصايغ، الذين عبّروا عن شجاعة استثنائيّة وبسالة هائلة في مواجهة الشدائد الفظيعة. وحاطوم أجود الفاسي وسمر بدّاوي من المملكة العربيّة السعوديّة: من الأصوات الشجاعة التي تصدح دفاعًا عن حقوق المرأة السعوديّة، وهما لا تزالان موقوفتان حتّى اليوم. وأمل فتحي في مصر ورضية المتوكّل في اليمن، وهما امرأتان باسلتان عرّضتا سلامتهما للخطر عندما فضحتا الظلم وتكلّمتا باسم ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.
والأمر سيّان بالنسبة إلى لودمينا بوبوفيشي، الناشطة ضدّ التعذيب في مولدوفا. وفي بولندا، عملت بربرا نوواكا على تنظيم الاحتجاجات ضدّ الإجراءات التي تهدف إلى تقويض حقوق المرأة. وتدافع سونيا فيفاروس بادييا في الإكوادور عن حقوق المنحدّرين من أصل إفريقي. وفي السلفادور المجاورة، تستحقّ كارلا أفيلار، الناشطة الشجاعة المتحوّلة جنسيًّا أكبر إشادة – تمامًا كما هي حال ماكسيما أكونا من البيرو، المدافعة المعروفة عن حقوق الإنسان البيئيّة.
يمكنني المتابعة في ذكر قادة الحركات الشعبيّة ضدّ التمييز وعدم المساواة الشجعان لأنّهم منتشرون في كلّ المناطق. وهذه الأسماء ليست سوى عيّنة عن مخزون حقيقيّ للشجاعة الأخلاقيّة والقيادة الموجودة في عالمنا اليوم.
وفي حين أنّ البعض يتحدّث من وجهة نظره الفرديّة، ويناضل في معارك محدّدة باسم مجتمعه المحليّ، يقود البعض الآخر حركات اجتماعيّة أوسع نطاقًا. وهي غير منسّقة على المستوى العالميّ. ولكن ماذا لو تمّ تنسيقها. ماذا يجري في حال دعمت كافة الحركات بعضها البعض، بصراحة وبكلّ فعاليّة؟
"ينتشر قادة الحركات الشعبيّة ضدّ التمييز وعدم المساواة الشجعان في كلّ المناطق... هم المخزون الحقيقيّ للشجاعة الأخلاقيّة والقيادة بيننا."
شهدتُ ذلك على نطاق ضيّق عندما زرت غواتيمالا في العام 2017. ففي خلال اجتماع للمجتمع المدنيّ، دعم كافة الناشطون الذين يمثّلون المجتمعات المختلفة بعضهم البعض بشراسة، وتكلموا وكأنّهم حركة واحدة لحقوق الإنسان – وتركَتْ القوّة التي عبّروا عنها أثرًا طويل الأمد في نفسي لم يفارقني قطّ. ماذا لو كرّرنا هذا النموذج على نطاق أوسع؟ ماذا لو لم تضمّ مثلاً المسيرة المنظّمة لمناهضة رهاب المثليّين في لندن، مجتمع المثليات والمثليّين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهويةّ الجنسانيّة وحاملي صفات الجنسين فحسب، بل ضمّ أيضًا كافة الحركات الأخرى – الحركة النسائيّة، ومَن يناضل من أجل حقوق ذوي الإعاقة، والأقليّات العرقيّة وغيرها، فتسير جميعها جنبًا إلى جنب؟ ماذا لو سارت مئات ملايين الأشخاص حول العالم احتجاجًا على ما نشهده اليوم من عدم كفاءة، وأنانيّة، ووحشيّة، وتهديد لرفاهنا الجماعيّ؟
ماذا لو دعم قادة الأعمال حركة حقوق الإنسان هذه المنسّقة والمركّزة؟ فهناك قادة أعمال من القادة الحقيقيّين الذي فكّروا مليًّا في حقوق الإنسان؛ أشخاص مثل بربرا نوفيك من بلاك روك، وبول بولمان من يونيلفر، وبراد سميث من مايكروسوفت، ومصطفى سليمان من ديبمايند. لم نشهد هكذا وحدة من قبل؛ ولكن إن حقّقنا ذلك، قد يشكّل ذلك نوعًا من علاج صدمة بالنسبة إلى أولئك السياسيّين الخطيرين الذين لا فائدة منهم ويهدّدون اليوم البشريّة. وقد يكفي ذلك لربّما لوضع حدّ للتدهور الذي نعيشه، وبالتاليّ عندما يلوّح أحد الأغبياء بإطلاق الشرارة لن يؤذي سوى نفسه، على أمل ألاّ يكون الجرح بليغًا.
أترككم مع هذه الفكرة. هي كلمتي الوداعيّة: الشجاعة والتحدّي والتوق إلى قيادة عادلة.